الرواتب والأجور.. أمام العواصف المعيشية ليست بحجم التعب والكفاءة.. والحكومة بدأت معركة التصحيح

تحقيق – هلال عون:

الدولة رفعت أجور العاملين في القطاع العام في خطوة على طريق تصحيح مفهوم العمل، فالتجارب الدولية أثبتت أن الدول التي رفعت أجور عمالتها شهدت نمواً اقتصادياً مستداماً، واستقراراً اجتماعياً وجذباً للاستثمارات.

وسوريا الجديدة تحتاج لسياسات أجور تعيد للعامل أشياء كثيرة، وتضمن للمستثمر أرباحه، وتقدم للاقتصاد الوطني فرصة حقيقية للنهوض.

والسؤال ماذا عن القطاع الخاص؟.

حكايات واقعية

في أحد مقاهي حي المزة بدمشق، يروي مهندس مدني في منتصف الثلاثين من عمره حكايةً من قلب الأزمة، يعمل عشر ساعات يومياً، ستة أيام في الأسبوع، مقابل راتب شهري لا يتجاوز 200 دولار.

يسأل بحرقة: “هل يُعقل أن تكون هذه قيمة خبرتي بعد كل سنوات الدراسة والعمل؟ كيف أطعم أولادي؟ كيف أدفع إيجار المنزل؟”.

أم محمد في شقة متواضعة بحي قدسيا، تجلس أم محمد (38 عاماً) تحسب مصروف الشهر بين دموع خفية، زوجها يعمل في شركة خاصة براتب 250 دولاراً، بينما مصروف أسرتها المكونة من 5 أفراد يتجاوز 700 دولار: “نضطر للاختيار بين دواء ابنتي المصابة بالربو ودفع إيجار الشقة كل شهر”، تقول الأم وهي تظهر دفتر مصاريفهم الشهرية الذي يكشف: – الإيجار: 250 دولاراً (شقة متهالكة من غرفتين ومنتفعات)، – دواء الربو: 40 دولاراً، – روضة لطفل واحد فقط: 60 دولاراً (بعد إخراج الابن الأكبر من المدرسة)، -طعام ونقل 300 دولار.

لينا في مكتب ضيق بحي المزة، تجلس لينا (32 عاماً)، محاسبة في شركة خاصة، تحسب رواتب زملائها، بينما راتبها لا يتجاوز 150 دولاراً: “أعمل 10 ساعات يومياً، ثم أعود لأدرّس أطفالي لأنني لا أستطيع تحمل تكاليف دروس خاصة”، تقول لينا وهي تظهر فواتيرها:

– إيجار المنزل: 200 دولار – مواصلات: 50 دولاراً. – فواتير أساسية: 100 دولار، -الطعام 200 دولار.

حسن “حسن . غ” محاسب في شركة طبية، راتبه 150 دولاراً، يسكن في بيت للإيجار بمنطقة المعضمية بريف دمشق، متزوج منذ بضعة أشهر، تشعر بأن زفيره يشوي ديكاً رومياً، وهو يحدثك عن همومه المعيشية، فقد اشترى غسالة أوتوماتيك لعروسه مما جَمَعَه قبل الزواج، ليفرحها بها، وبعد أن ركّب الغسالة، ووضعت العروس بها وجبة الغسيل، اشتغلتْ مدة نصف ساعة ثم توقفت، فظنّ أن بها عطلاً، وراجع المعرض الذي اشتراها منه ليعيدها له، ففوجئ بسؤال صاحب المعرض له: هل الكهرباء بمنزلك فوق 200 فولت؟! فأجابه لا أعرف، ليخبره صاحب المعرض أن الغسالة لا تعمل إذا كانت الكهرباء تحت 200 فولت، وبعد الاستعانة بكهربائي تبيّن بالفعل أن الكهرباء في منزله تحت 200 فولت، وأنه بحاجة إلى منظم كهربائي لا يقل عن 10.000 شمعة، وثمنه حوالى 150 دولاراً، وهو في حيرة من أمره، إذ لا يملك ربع هذا المبلغ، ويختم بأنه سيبحث عن عمل ثانٍ لعلّه يؤمّن ثمن المنظّم!.

بيانات

هذا الواقع ليس استثناءً، فبيانات البنك المركزي السوري تشير إلى أن:

– 85% من عمال القطاع الخاص ينفقون أكثر من 90% من رواتبهم على ضروريات الحياة وأغلب الاحيان لاتكفيهم. – 70% من الأسر تعتمد على أكثر من مصدر دخل.

– 60% من الخريجين الجدد يفكرون بالهجرة.

– 82% من أسر القطاع الخاص تعيش بعجز شهري.

– 68% من الأطفال تركوا المدارس الخاصة لصالح الحكومية.

– 55% من الأسر تقتطع من غذائها لدفع الإيجار.

تُجسد هذه القصص واقع شريحة واسعة من السوريين العاملين في القطاع الخاص، ممن تُهان كرامتهم يومياً على عتبة راتب لا يسد رمقاً ولا يواكب تكلفة المعيشة.

بين الفائض البشري والندرة الوهمية

تشير شهادات مستثمرين عادوا حديثاً إلى سوريا إلى أنهم لم يجدوا “العمالة المناسبة” لتشغيل مشاريعهم، غير أن هذه المقولة – كما يوضح الدكتور عبد المعين مفتاح، الخبير والاستشاري في الإدارة والاقتصاد وإعادة هيكلة الشركات، والمختص بالإدارة العامة والتنفيذية – تحمل كثيراً من التبسيط وربما الخلل في الفهم، فالمشكلة لا تكمن في نقص الأيدي العاملة، بل في تدني الأجور المعروضة، فعندما تُطرح وظائف برواتب 200 دولار فقط، فإن أصحاب الكفاءات والخبرات يعزفون عنها.

ببساطة، هذا الرقم لا يتناسب مع الحد الأدنى المطلوب للعيش بكرامة في سوريا اليوم.

القطاع الخاص: بوابة البناء أو الهروب الجماعي

إذا أردنا لسوريا أن تُعيد بناء نفسها، وأن تجذب استثمارات خليجية وعالمية بعد التحرير، فلا بدّ من بناء بيئة عمل تليق بالكوادر السورية وتُشجعهم على البقاء أو العودة من بلاد الاغتراب.

وهذا يتطلب برأي د. مفتاح، إعادة صياغة سلم الأجور في القطاع الخاص، بعد ثلاث سنوات من الآن على النحو الآتي: ينبغي أن يكون الحد الأدنى لأجور العمال اليدويين 400 دولار شهرياً، بينما يُفترض أن يتقاضى العامل الماهر على الأقل 600 دولار.

أما المهندسون، الصيادلة، الأطباء، والمتخصصون في المهن النوعية، فيجب أن يبدأ راتبهم من 1000 دولار، مع تخصيص رواتب تبدأ من 700 دولار للوظائف المحاسبية والإدارية التي تتطلب خبرة، وفوق ال 1500 دولار للمديرين التنفيذيين أو العامين وعلى الأقل، ويزيد حسب طبيعة الموقع والمسؤوليات.

ويوضّح د. مفتاح أن هذه الأرقام ليست مثالية، بل واقعية إذا ما قورنت بتكلفة المعيشة الحقيقية في دمشق، والمرتبات السائدة في دول الجوار.

أرقام تكشف الفجوة

اعتماداً على بيانات منصة Numbeo ومصادر محلية موثوقة، تُقدر الكلفة الشهرية اللازمة لتغطية احتياجات أسرة سورية مؤلفة من خمسة أفراد تعيش في دمشق كالتالي: لنأخذ مثال أسرة مكونة من 5 أفراد:
– إيجار منزل: 300 دولار (بعد تخفيض الأسعار)
– غذاء: 300 دولار
– مواصلات: 100 دولار
– صحة: 100 دولار المجموع: 800 دولار شهرياً.
كيف يعيش مدير براتب 800 دولار أو عامل بـ200 دولار، بينما إيجار شقة متوسطة في دمشق يتراوح بين 500 إلى 700 دولار شهرياً، ومصروف الطعام والمواد التموينية اليومية يصل إلى نحو 400 إلى 500 دولار، وتكاليف المواصلات والتنقل (بما في ذلك البنزين أو النقل العام) تتراوح بين 100 إلى 200 دولار، والتدفئة في الشتاء، الكهرباء، والمياه، ورعاية صحية أساسية تقدر بنحو 200 إلى 300 دولار.

بذلك يتضح أن تكلفة معيشة الأسرة المتوسطة في دمشق تتراوح بين ما يزيد على 1000 دولاراً شهرياً، أي ما يعادل نحو 10 متوسط الرواتب الحالية في القطاع الخاص، الذي لا يتجاوز غالباً 100 إلى 200 دولار.

وتشير بيانات وزارة العمل 2024) إلى 2.8 مليون عاطل عن العمل، و1.2 مليون شاب يبحثون عن فرصة عمل، و450 ألف خريج جامعي عاطل عن العمل.

ومما سبق نستنتج ، كما يقول د. مفتاح أن المشكلة ليست في العمالة، بل في الأجور.

فلنقارن: عامل بناء في سوريا راتبه 200 دولار، وفي لبنان: 600 دولار، وفي الأردن: 500 دولار.

أما المهندس المدني فراتبه في سوريا حوالي 200دولار، بينما في تركيا: 1500 دولار ولنأخذ مثالاً عملياً من تركيا أيضاً، حيث يتقاضى العامل اليدوي هناك راتباً شهرياً يتراوح بين 800 إلى 1200 دولار، بينما يتقاضى الفني أو المهندس ما بين 1500 إلى 2500 دولار، وبالتالي، إذا أردنا فعلاً اجتذاب شركات عالمية كبرى إلى السوق السورية بعد التحول إلى اقتصاد السوق الحر، فلا مفر من مواءمة الرواتب السورية مع الحد الأدنى من الرواتب السائدة في دول الجوار.

اقتراحات لتطوير أجور القطاع الخاص

مع تحول سوريا لاقتصاد السوق الحر ودخول الشركات العالمية، يجب أن تصبح الرواتب قادرة على تأمين: أولا: سكن لائق (30% من الدخل) ثانيا: تعليم جيد (15% من الدخل) ثالثا: رعاية صحية (10% من الدخل) رابعا: مواصلات (8% من الدخل) خامسا: ادخار واستثمار (15% من الدخل).

إعادة هيكلة

يرى الدكتور عبد المعين مفتاح أن الحل لا يكمن فقط في رفع الأجور، بل بإعادة هيكلة كاملة لمنظومة العمل، تتضمن النقاط التالية:

أولاً: اعتماد نظام الأجور الأسبوعية بدلاً من الشهرية، بما يسهم في تخفيف الضغوط اليومية عن العامل، ويزيد من شعوره بالاستقرار المالي، وهو النظام المتبع في كثير من القطاعات داخل الولايات المتحدة.

ثانياً: ربط الرواتب بمؤشر تكاليف المعيشة الفعلي، بحيث يُعاد تقييم الأجور سنوياً على ضوء التضخم ونسب الأسعار.

ثالثاً: فرض أدنى عادل للأجور، مرتبط بسلة المعيشة وليس بسقف حكومي جامد.

رابعاً: تقديم حوافز ضريبية وتشجيعية للشركات التي تلتزم بدفع أجور عادلة وتحترم حقوق العمال.

خامساً: دعم الشركات الناشئة والمتوسطة بمنح حكومية مقابل تعيين موظفين بأجور مناسبة، على غرار ما يحدث في دول شرق أوروبا بعد التحرر الاقتصادي.

سادساً: الاستثمار في البنية التحتية التعليمية والتدريبية لضمان مخرجات ذات كفاءة تُبرر الرواتب المرتفعة.

سابعاً: توسيع نطاق الضمان الاجتماعي ليشمل القطاع الخاص بشكل حقيقي، ما يمنح العامل أماناً وظيفياً يعوض عن تقلبات السوق.

ثامناً: تخفيض الإيجارات للسكن من 50 – 70% عبر: تحديد أسعار إيجار قانونية تشجع الاستثمار في الإسكان، وإعادة إعمار المناطق المدمرة

التأثيرات: في المجال الاقتصادي

أولاً: انخفاض معدل الهجرة لـ 30%

ثانياً: زيادة الإنتاجية 40-60%

ثالثاً: جذب استثمارات تصل لـ 8 مليارات دولار سنوياً

في المجال الاجتماعي

أولاً: انخفاض نسبة الفقر لـ 20%

ثانياً: زيادة معدلات الزواج 35%

ثالثاً: تحسن مؤشرات الصحة والتعليم

رسالة للقطاع العام دون حساسية

في وقت تتزايد فيه الأصوات الرسمية التي تحتفل برفع أجور موظفي القطاع العام إلى ما يعادل 120 دولارا شهرياً، لا يُقصد من انتقاد أجورالقطاع الخاص التقليل من هذا الإنجاز.

فالعامل في القطاع العام غالباً ما يعمل ضمن منظومة تعاني من البيروقراطية والفساد، وتفتقر إلى الحوافز والنتائج الإنتاجية. بينما يتطلب العمل في القطاع الخاص جهداً مضاعفاً، وساعات أطول، ومخرجات حقيقية.

يوضح الدكتور عبد المعين مفتاح: “المقارنة بين القطاعين تحتاج لفهم الفروقات الجوهرية”:

أولاً: ساعات العمل: – الخاص: 60 ساعة أسبوعياً في المتوسط – العام: 35 ساعة مع إجازات مضمونة .

ثانيا: الإنتاجية – الخاص: يعتمد على الإنجاز المباشر، والعام يعاني من البيروقراطية (حسب تقرير البنك الدولي 2023).

ثالثا: نظام المكافآت: – الخاص مرتبط بالأداء، أما العام فثابت بغض النظر عن الإنجاز.

من هنا، فإن المطالبة بتحسين أجور القطاع الخاص لا تتعارض مع دعم القطاع العام، بل هي مكملة لعملية إصلاح اقتصادي أشمل.

ختاماً: لا يمكن بناء سوريا الجديدة على أساس أجور تشبه “إعاشة المجند” في معسكر، وووجوب دخل يحفظ الحدّ الأدنى من المعيشة، ولا تنمية بلا استقطاب للخبرات، ولا إعادة إعمار دون أن يكون العامل شريكاً في البناء لا مجرد أداة يتم استنزافها.

من هنا، تبدأ المعادلة: الإنسان أولاً. “الراتب هو انعكاس لقيمة الإنسان في وطنه” السؤال ليس “هل نستطيع تحسين الرواتب؟” بل “هل نستطيع تحمل استمرار الوضع الحالي؟”.

التجارب الدولية أثبتت أن الدول التي رفعت أجورعمالتها شهدت نمواً اقتصادياً مستداماً واستقراراً اجتماعياً وجذباً للاستثمارات.

وسوريا الجديدة تحتاج لسياسات أجور تعيد للعامل كرامته، وتضمن للمستثمر أرباحه، وتقدّم للاقتصاد الوطني فرصة حقيقية للنهوض.

آخر الأخبار
تصريحات المعنيين .. ورواتب السوريين! تعافي حلب الاقتصادي يتسارع.. تعاون جديد بين غرفة التجارة وولاية مرعش الشيباني يبحث مع مبعوثة المملكة المتحدة تعزيز العمل المشترك دعم لليرة ... " المركزي" يلزم المصارف بإعادة مبالغ التأمين بالليرة السورية انحباس الأمطار يحرم فلاحي حلب من استثمار أراضيهم الجفاف يضرب سوريا .. نداء وطني لإنقاذ الزراعة والأمن الغذائي حملة  للتبرع ب 100 وحدة  دم أسبوعياً في حمص   "دقة الموجات فوق الصوتية في الحمل" بحلب  وحضور طبي كبير الهندسة الاجتماعية .. فن اختراق العقول بدل الأجهزة " نقل " حلب تعود بعد تأهيلها وشروط محددة  لمنح تراخيص العمل  تجربة يعيشونها لأول مرة ..  رابطة الجالية السورية في فرنسا تنتخب مجلس إدارتها مجمع قمامة الإدعشرية شرقي دمشق من دون بديل ووعود منذ ٣٠ عاماً باحثة روسية لـ"الثورة": موسكو تسعى لتعزيز علاقتها مع دمشق للحفاظ على نفوذها في المنطقة برنامج الأغذية العالمي يتفقد الأضرار في بصر الحرير بدرعا يشكون "التهميش الصامت ".. طلاب البكالوريا المهنية-المعلوماتية : الامتحان غامض والكادر غائب رفع التلوث من أمام مستشفى درعا الوطني النظام الضريبي الفعال في ظل الدور الجديد للدولة خبراء لـ " الثورة": الضرائب تحوّلت إلى أتاوات وأبوا... مذكرة تفاهم سورية تركية للتعاون في النقل البري الدولي  خطط إسعافية لمواجهة تراجع تخزين سدود طرطوس "العفو الدولية" تحذر من النقص الحاد في الدعم الصحي والقانوني للناجين من التعذيب في سوريا