كان صديقي يُحدِّثني عن الشاعر والروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي وكنتُ فَرِحاً بكلِ ما يقوله، ذلك أنّ هذا المبدع العملاق أثرَّ فيَّ أكثر مما فَعَلَ سواه من الكتّاب، ما قرأتُ لهُ عملاً من أعمالِهِ المذهلة: زوربا – القديس فرنسيس الصقلي – الإغواء الأخير للمسيح – المسيح يُصلب من جديد – الحديقة الصخريّة…
إلا ووجدتُ نفسي أكتبُ عملاً أدبيّاً ما بعد الانتهاء من نَصّه.. حين بُحتُ لصديقي بذلك قالَ مازحاً: «طبعاً يا صاحبي؛ هي قرابةُ الدم»، ضحكتُ دون أن أفهم ما يعنيهِ تماماً؛ ثُمّ ها هو ذا يبيّنُ لي أن كازنتزاكي يعودُ بنسبهُ إلى العرب من ناحيةِ الأبّ وإلى الإغريق من ناحية الأم.. نفيتُ الفكرة؛ فاستغرب قائلاً: «ألم تقرأ كتابَهُ (تقرير إلى غريكو)؟» أجبتُهُ: «مرتين»، قال: «عُد إذاً إلى فصل: الأسلاف»، كان كتابُ «تقرير إلى غريكو» – من وجهةِ نظري – واحداً من أهم الأعمال الأدبيّة التي صدرت في القرن العشرين وقد قرأتُهُ كاملاً مرتين، وعدتُ إلى بعض فصولِهِ أكثر من مَرّة حين كتبتُ عن بعض روايات كازنتزاكي، ولكنني لا أذكُرُ أبداً أن الرَجُلَ نسبَ نفسه إلى العرب؛ رُبّما لأن هذهِ المسألة ما كانت تعنيني أبداً؛ فكازنتزاكي تحديداً إنسان شاملٌ ومتسامٍ فوق القوميات… لكن ها أنذا فجأةً أسمع تلكَ الكلمات في زمنٍ أرى فيه الكثيرين أشخاصاً ودولاً وأحزاباً يحاولون رمي هذهِ الهويّة عنهم، كما يُرمى الثوب المُهترئ، بفعلِ مؤثراتٍ عالميةٍ وداخليّةٍ خبيثةٍ شتّى.
وقرأتُ في فصل «الأسلاف» بترجمة ممدوح عدوان: «وما ساعدني على الوصول إلى هذه الثقة أكثر من أي شي آخر كان التراب الذي ولد عليه أسلافي وكبروا. لقد انحدر أهل والدي من قرية تدعى «بارباري»، على بُعد ساعتين من ويفالوكاسترو. وحينما استعاد الإمبراطور الروماني تيسوفوروسر فوكاس «كريت» من العرب في القرن العاشر وزّع العرب الذين سلموا من الذبح في عدّة قرى، وقد سمِّيت هذه القرى «بارباري» وفي قرية كهذه مدّ آبائي جذورهم. إن فيهم جميعاً آثاراً عربيةً. فهم فخورون وعنيدون ومشدودو الشفاه، معتدلون في طعامهم، كانوا يخزّنون حبهم أو غضبهم سنوات عديدة في صدورهم دون أن ينبسوا بكلمة، ثم بغتة (يُفرشِخُ) الشيطان فيهم فينفجرون في سعار. والفائدة القصوى بالنسبة لهم ليست الحياة بل العاطفة. وهم ليسوا طيبين ولا مجاملين، حضورهم جائر دون عناء، ليس بسبب الآخرين بل بسببهم. هناك شيطان داخلي يخنقهم. وبينما هم على وشك الاختناق يتحولون إلى قراصنة أو يطعنون أذرعهم وهم في انشداه سكران لكي يسفحوا دماً ويجدوا متنفساً، وإلا فإنهم يقتلون المرأة التي يحبون خشيةَ أن يصبحوا عبيداً لها. أو يفعلون مثلي، أنا حفيدهم ، يجهدون لتحويل الثقل القاتم إلى روح. وماذا يعني ذلك: تحويل أسلافي الهمج إلى روح؟ هذا يعني أن أطمسهم بإخضاعهم لامتحان علوي.
وما تزال أصوات أخرى تشير سراً إلى الطريق المؤدي إلى أسلافي. قلبي يخفقُ فرحاً حينما أصادف نخلة، تظنّ كأنها تعود الى مسقط رأسها، إلى القرية البدوية المليئة بالغبار، والمجدبة التي فيها الزينة الثمينة هي النخلة.
حينما دخلتُ مرّة إلى الصحراء العربية على ظهر جمل وتصفّحت بنظري أمواج الرمال اللامحدودة واليائسة أمامي – صفراء وزهرية، وفي المساء تصبح بنفسجية دون أثر لإنسان – انتقلت بثمُلٍ غريبٍ بعيداً جداً، وزعق قلبي كأنثى الصقر العائدة إلى العش الذي هجرته منذ سنوات، آلاف السنوات وقبل ذلك».
إذاً فقد كان صَاحبي مُحقّاً؟ وها هو ذا نيكوس يرى أن ذلكَ التيار المزدوج من الدم اليوناني والعربي جَرَى في عروقِهِ وكانَ إيجابيّاً ومُثمِراً وقد منَحَهُ القوة والغبطة والغنى (وفق تعبيره). ولاسيّما أنّه جَهِدَ طويلاً لصُنعِ فرضيّة من هذين الدافعين والمكوّنين المتنافرين تمنحَ حياتَه هدفها ووحدتها. حتى إذا أصبَحَ هذا الحَدْسُ الغامضُ مؤكّدَاً – كما يقول – تساوى العالمُ المرئيُّ من حولِهِ في انتظام، وتلاءَمت حياتُهُ الداخليّة والخارجيّة كلٌّ منهما مع الأخرى. بعد أن عَثَرَ على الجذر السلفي المزدوج. وهكذا فإنّهُ بعد سنواتٍ من الكراهيّة الغامضة التي كان يحس بها نحو الأب.. استطاع أن يحولها إلى حب…
فهل ننصَحُ الكثيرين ممّن نراهم حولنا اليوم يتنكّرون لهذا الأب أن يقتدوا بما فعله نيكوس اليوناني…
بحيث يفوّتونَ على القوى الجهنميّة الخارجيّة والداخلية فرصةَ أن تحرمهم من مكوّنٍ – قد لا يكون الوحيد- عميقٍ وراسخٍ وبعيدِ الغور في الحضارة الإنسانيّة.
د. ثائر زين الدين
إضاءات
التاريخ: الأحد 14-10-2018
الرقم: 16810