عندما لم تكن هناك تلك القنوات التلفزيونية الفضائية ببثها الدائم والمستمر، والذي لا يأخذ استراحة له بأي حال من الأحوال، ولم تكن أيضاً قد ظهرت تلك المواقع الالكترونية للصور، والأفلام، والبث الفضائي، وغيرها، كان الناس يلجؤون إلى القراءة، والكتابة، والثقافة.. كما كانوا أكثر اقتراباً من المغامرة الفكرية التي تبدأ بالفلسفة، والبحث العلمي، ولا تنتهي عند طرح النظريات، والأفكار الجديدة، لكن المغامرة الفكرية الآن بفضل جرعات الترفيه الزائدة التي تبثها التلفزيونات على حساب المعرفة قد أصبحت شبه محجوبة.. أو مشلولة بفعل ما بات يستنزف العقول ليحشو بها ما يريد لا ما نريد.
لقد عملت وسائل الإعلام، وأهمها التلفزيون الذي أصبح سلاحاً فاعلاً للتوعية، أو لسلب العقول على حد سواء، أقول عملت دوراً سلبياً في التأثير على عامة الناس عندما أفردت القنوات جل بثها لكل ما فيه الهزل لا الجد، ولكثير من الغث الذي لا يغني الفكر بل يجعل المشاهد يدور في فلك من المتعة الزائفة، والضحكة المفتعلة، والاستسلام لكل ما لا فائدة ترجى منه، بينما تقلص دور القنوات الأخرى التخصصية والتي تُعنى بالبث الجاد الذي يقدم مضموناً لا يخرج عن هدفه في تثقيف المشاهد، وإغناء معارفه، وربما تعرضت هذه القنوات لتقليص مواردها المالية اللازمة للارتقاء بمحتواها، بينما تُغدق الملايين من الأموال للخروج ببرامج اللهو، والتسلية التي تجتذب إليها أكبر نسب المشاهدة، والقنوات تتبارى بفوزها بأعلى هذه النسب من المتابعين بالملايين، لتتزايد الأرقام بحساب، أو بغير حساب.
أما ذلك الذي يُقدِم على المغامرة الفكرية فهو يكاد لا يعرف إلى أين ستقوده مغامرته هذه والتي قد تبدأ بفلسفة، أو ببحث علمي، أو بنظرية ما تبحث عن حقائق تثبتها، أو بأفكار جديدة يطرحها صاحبها بملئ الثقة، واليقين إلى أن يَثبُت نفيها، أو تأكيدها، فالمغامرة الفكرية تبدو خروجاً عن المألوف، وعن المسار العام لما هو قائم، وسائد، وتغيير في أنماط التفكير بما يسمح بطرحٍ جديدٍ للأفكار لتتحقق المغامرة الفكرية بحق.
أليست التقنيات الدقيقة التي دخلت إلى مجال الطب، أو تقنية استرجاع الذكريات والصور للدماغ البشري باستخداماتها الفائقة، والمتعددة قد انطلقت من مغامرة فكرية كُتب لها أن تتحول إلى مغامرة رائدة؟
والعالم عموماً ينقسم إلى قسمين بين: مَنْ يقوم بالمغامرة الفكرية، وآخر يقوم بالمغامرة الجسدية.. لكن هناك مَنْ يقوم بالاثنتين معاً.. أما وقد وصلنا إلى زمن جديد فقد أصبحت لدينا أيضاً المغامرة الالكترونية، والتي قد تندرج في خانة تلك الفكرية لأنها تأتي بما هو مختلف، مبتكر، ومتطور، جريء. وما الضير فيما لو أنه الجمع بين المغامرة الجسدية، والأخرى الفكرية في حالة من التحدي للوصول إلى نتائج، أو إجابات حاسمة عززتها أكثر من مغامرة واحدة.. ألن تكون التجربة أكثر إثارة، واكتمالاً؟
فعندما نكون في أوضاع تضمن لنا السلامة، والأمان تُستنفر لدينا الرغبة في المغامرة الجسدية الخطرة، وغالباً ما تكون عن طريق بعض الرياضات الخطرة التي يمكن أن تودي بحياة المرء ما لم تكن بحسابات دقيقة، وخطوات مدروسة، أما الخوض في تجارب المختبر، أو اكتشاف مناطق جديدة، ومجهولة من الأرض، وحتى الحروب فهي جميعاً تنطوي على تلك المغامرة لأنها في النهاية محكومة بواحد من احتمالين لا ثالث لهما إما الفوز، أو الخسارة.. والتجريب في العلم هو أيضاً يقوم أساساً على المغامرة، وقد تكون المخاطرة لبلوغ النتائج الحاسمة، والنهائية.
وما دام العصر يسعف بعلوم، وحلول كثيرة فالمخاطرة ما عادت ترهب كتلك التي كانت في قرون سابقة.. وإذا كانت مغامرة الجسد حدودها تنتهي عند سنوات العمر، فإن مغامرة الفكر لا تحدها الأعمار.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 9-11-2018
الرقم: 16832