ربما مجموعة من الأسئلة تدور في ذهن البعض فيما يتعلق بمرحلة الإعمار والبناء من حيث سياسات التعليم والتشغيل هل هي سياسة استيعابية ام احتياجات مستقبلية .؟ بالعودة قليلاً إلى الوراء
نجد أن النظام التعليمي في سورية بني في أواسط القرن الماضي بما ينسجم مع مستوى التطور العلمي والإنتاج في البلاد والوظائف المنوطة بالدولة والإدارة العامة في ذلك الوقت .وتركزت معظم خطط التعليم في المراحل الأولى على توسيع قاعدة التعليم وتوفير التعليم الأساسي لكافة المواطنين ،وفي مرحلة لاحقة،فرضت احتياجات عملية التنمية التوسع في التعليم المهني والجامعي.
لكن ومع توقف العمل بالخطط الخمسية لفترة من الزمن والانتقال إلى التخطيط التأشيري منذ بداية الألفية الجديدة كانت العلاقة بين التعليم وسوق قوة العمل ضعيفة إلى حد ما على الرغم من محدودية هذه السوق،حيث تحولت خطة التعليم العالي وفق أبحاث الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان المتعلق بالتقرير الوطني الثاني لحالة السكان إلى مفهوم الاستيعاب ، بمعنى توفير مقاعد دراسية لخريجي التعليم الثانوي في الجامعات والمعاهد بغض النظر عن الاحتياجات الفعلية لقطاعات الاقتصاد الوطني والمجتمع السوري وحاجة التطوير العلمي التقني في البلاد.
ونتيجة ذلك تحولت الجامعات إلى مدارس مكتظة يتنافس الطلاب فيما بينهم على مقاعدها المحدودة .وهنا تلخصت أهداف التعليم بتوسيع قاعدة التعليم الأساسي والثانوي والاستيعاب في مرحلة التعليم الجامعي والمتوسط وغابت أهداف تطوير بنية النظام التعليمي ونوعيته،وغيبت تماما عملية الربط بين النظام التعليمي والثورة العلمية والتقنية المعاصرة ،إذ حافظ النظام التعليمي على تقسيماته ومراحله الجامدة ،وآليات الانتقال بين أقسامه ومراحله وعلاقته بالمحيط والتبادل معه رغم تعارض ذلك مع أهم استنتاج للثورة العلمية والتقنية وهو«التعليم المستمر ومدى الحياة »الذي يتطلب سهولة الانتقال بين أقسام النظام التعليمي ومراحل ودوام العلاقة مع المؤسسات المرتبطة بمحيطها والمجتمع .
لقد فرضت متطلبات التطور العلمي والتقني الحديث علاقة تبادل مفتوحة بين النظام التعليمي وسوق قوة العمل،فجزء من التعليم يتم في العمل،فيما وقت من العمل يكرس للتعليم وتحقيق ذلك يتطلب قيام نظام تعليمي مرن وأكثر انفتاحاً، إلى جانب وجود مناهج تعليمية متوافقة مع هذا التطور.
ويشير التقرير لما أحدثته الثورة العلمية من تغيرات جوهرية في بنى الإنتاج وتنظيم العمل والادارة ،وأوجدت نظاما انتاجيا مبنيا على المعرفة يحقق اليوم أكثر من نصف الناتج المحلي في البلدان الصناعية المتقدمة ويشكل أكثر من 50% من قيمة التبادل التجاري العالمي،فيما يرتبط جزء هام من النمو وزيادة الإنتاجية وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاديات الوطنية بهذا القطاع الإنتاجي.
معطيات البحث السكاني بينت أن الانتقال إلى الإنتاج المبني على المعرفة يتطلب تغيرات أساسية في بنية قوة العمل التعليمية ،فصناعة الحديد والصلب الحديثة تتطلب على سبيل المثال لا الحصر عددا كبيرا من المهندسين في المعادن والكهرباء والإلكترون إضافة إلى عدد من المبرمجين وفنيي الكمبيوتر،مقابل عدد محدود من العمالة متوسطة التأهيل والتكوين العلمي،وانتفت حاجتها الى العمال الأشداء ومهنيي التعدين وهذا الواقع ينطبق على معظم أنشطة الانتاج والإدارة.
بالمقابل فقد أصبح معظم -ان لم يكن جميع -المشتغلين في اي فرع من فروع الانتاج أو العمل مرتبطين بنهاية طرفية لشبكة حاسوبية حتى في العديد من الدول النامية ،هذه التحولات فرضت بالتأكيد تعليما وتأهيلا عاليا على مستوى التكوين المعرفي للقوة البشرية بغية الحصول على فرص عمل،بعدما أدت بتغذية راجعة إلى تغيرات في النظام التعليمي والمناهج التعليمية التي أصبح مطلوبا منها توفير تعليم عالي المستوى في مجال العلوم الأساسية،وتحقيق معرفة واسعة في العديد من المجالات،إضافة إلى تكوين مهارات مهنية لتمكين خريجي النظام التعليمي من التأقلم مع التطورات السريعة والمستمرة في تقنيات الإنتاج.
التسهيل عودتهم إلى النظام التعليمي لترميم معارفهم وتحديثها فقد تقلصت المدة الزمنية الفاصلة بين وتائر التجدد التكنولوجي في بعض القطاعات مثل تقانة المعلومات والاتصالات إلى شهرين تقريبا.
لقد أعادت الثورة العلمية والتقنية الاعتبار الى العلم بكونه العامل المحفز أو المظهر في رأس المال البشري.
غصون سليمان
التاريخ: الجمعة 4-1-2019
الرقم: 16876