لا تزال المواقف التركية وتحديداً تلك التي يطلقها رأس النظام تستحوذ المساحة الأكبر من فانتازيا الافتراضات والاحتمالات، وصولاً إلى كمٍّ هائلٍ من الأكاذيب التي تحاكي أطماعه، وآخرها إنشاء جيش من المرتزقة يكون بديلاً للأميركي، يسدّ الفراغ ويؤدي المهام التي يستصعب التركي الخوض في تحدياتها، تاركاً الحبل على الجرار لسيل التمنيات والأوهام في الوصاية على المنطقة بعد خروج الأميركي.
المعضلة أن الاصطفافات التي ترتج على وقع التباين والتناقض في الحديث الأميركي عن الانسحاب، ترتطم بحائط من الصيغ المرسومة لمجموعة من المؤشرات الميدانية التي تفسح في المجال أمام التركي وغيره من أدوات وظيفية للمبالغة في إعادة تعويم إرهاصات ما نتج من أحلام سابقة ممزوجة بخيبات ما أوكل إليها من مهمات في أدوارها الوظيفية، بينما جاءت الشروط المضافة لترسم من خلالها ظلالاً من الشك والريبة حول خبايا القرار الأميركي، ما أفسح في المجال لترويج تجارة الوهم، مستظلة بالاستطالات الناتجة عن تورم الأحلام التركية على وجه الخصوص.
المبازرة التركية لا تقتصر على تحسين شروط الارتزاق السياسي، ولا تحددها نقاط الاتفاق والاختلاف في المقاربة السياسية التي تنحو على وجه واضح باتجاه الترويج لتلك التجارة الكاسدة، بل تشمل جوانب مختلفة من المقاربة المباشرة التي تحاول أن تتوهم أن بإمكانها انتزاع التفويض الأميركي، وإطلاق اليد التركية لتكون على مقاس السياسات التي تريدها الإدارة الحالية، بحيث الاصطدام لن يكون على المحاصصة السياسية والميدانية، ولا على المرتزقة وشكلها ومكوناتها، بل على تكرار تجارب فاشلة كان الإسرائيلي قد سبق التركي فيها، وله باع لم يتُح لسواه، وبتفويض أميركي مفتوح، ودعم مالي وعسكري مشرعن من الإدارات الأميركية المتعاقبة، حيث لا تزال إسرائيل تجترُّ مرارة خيباتها وتراكماتها.
البحث عن المرتزقة في المفهوم التركي تجاوز المشهد المعتاد في كل التجارب السابقة، حيث التعويل فيه هنا على ما تذهب إليه الأوهام والتورمات المرضية التي باتت جزءاً أساسياً من الشروط المركبة التي يعيد إنتاجها التركي على نحو يحاكي فيها تمنياته المختلفة، وتبرز المعضلة هنا في الشروط والشروط المضادة التي يراهن من خلالها على التفرد بقرار المرتزقة من جهة، والتخلص من تبعات التنظيمات الإرهابية التي أنشأها على مدى السنوات الماضية من جهة ثانية، بحيث تتحول الأزمة التي يواجهها في العلاقة مع تلك التنظيمات إلى حلول يتشارك فيها مع الأميركي، ويتقاسم غنائم الإرهاب مع الإسرائيلي بالخبرات التي يوفرها.
المشروع يبدو أنه تمَّ التقاطه أميركياً على أكثر من مستوى، وما كتبه أردوغان لمخاطبة الأميركيين في نيويورك تايمز، يُستشف منه تلك الخلاصات التي يريدها ويسعى إلى تكريسها من خلال مشروع يكون بديلاً للمشروع الأميركي في الاستثمار بالإرهاب، وعلى نحو يحاكي فيه مختلف مراحل التأزم الغربي، وتحديداً الخشية الغربية من عودة الإرهابيين الذين يتسربون بالعشرات عبر الممرات التي يوفرها النظام التركي في رحلتهم العكسية، ممهورة في نهاية المطاف بجملة من المعادلات التي بدأت بالظهور والتشكل، وقواعد الاشتباك الخاصة التي يكون فيها الأميركي الضامن.. والتركي المنفذ.. والأوروبي الراعي، وحتى ذلك الوقت يبدو أن البحث لا يزال جارياً عن مرتزقة ليس على مستوى الميدان، وقد تكفّل بهم النظام التركي، وإنما على المستوى السياسي والازدحام بين الرعاة الإقليميين على أشدّه، والمنافسة محتدمة، والحلبة تعاني تخمة الفائض!!
بقلم رئيس التحرير عـلي قــاســم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الأربعاء 9-1-2019
رقم العدد : 16880