من محاسن الحروب والكوارث, إن كان لها مثل ذلك, وبالتأكيد ليس لها, لكن دعونا نقل افتراضا أن لها ذلك, من محاسنها أنها تكشف المعادن وتجلوها, فما هو من تنك وصدأ لابد أنه سوف يذوب وينتهي إلى حيث الرماد, وفي مثل هذه المحن تظهر علائم الأصالة الفردية والجماعية, يظهر المجتمع على حقيقته, تظهر أسس البناء المتين التي كانت, وتتداعى الجدران التي بنيت على فراغ.
ليس الأمر عاديا في أي حرب أو أزمة فكل العالم السفلي يطفو, يظهر, وكثيرا ما يحل الرديء مكان الأصيل والغث مكان السمين, يستمر ذلك فترة تطول أو تقصر حسب أصالة المجتمع, يظهر الانتهازيون واللصوص والقتلة والمارقون, وكل من يعيش في نفق العالم السفلي, ويتلطى وراء اللحظة المناسبة لينقض على ما يظنه مغنما, مكسبا, بغض النظر عن مشروعية ذلك, لايهمه من يكون الغنيمة, الضحية, أبا, أخا, أما, فالأمر سيان عنده, تشده (الانتهازي) عوالم الدنيئة التي يريد لها أن تكون سيدة الساحة والموقف, وعلى الطرف الثاني تصقل المعادن,ويظهر النبل والفداء والكرم والعطاء عند من يؤمن أن الوطن ليس مالا ولا ثروات, وليس بستانا يوزعه لمن شاء, وليس مواقع تعطى لهذا وذاك حسب قربه وبعده عن صناع الكثير من القرارات التي يجب ألا تكون, ولكنها مرحلة وتعبر. في هذه الحروب, نقرأ الكثير الكثير, ندون نسجل نعرف, وأول العائدين أو المحاولين العودة إلى سياق عام بعد النصر هم أولئك الذين تلطوا وراء الجبل بانتظار ما سيكون, وفي صفوفهم من ينتظر السانحة ليجمع الغنائم ويكدس الثروات, هذا في العالم كله, ليس في سورية التي صهرتها الحرب, فتم فرز الغث من السمين, وما أروع النبل الذي بدا, سورية المعدن الأسمى والانقى, والأشمل, والأعم تاريخا وثقافة وعملا وقدرة على اجتراح الكثير من الحلول, وبغض النظر عما نراه من انقضاض الكثيرين من العالم السفلي ليكونوا في الواجهة إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
يؤلمنا ذلك, لكنه ليس الأصل الذي نتحدث عنه, لكنه يحفر بل يعمل على ترسيخ مقاييس ليست صحيحة, ولكنها تريد أن تكون القاعدة القادمة لما بعد الحرب, ومن باب قرع الجرس والتنبيه لمن يهمه الأمر إن كان يفعل، وما اكثر ما انتظرنا قبل وبعد, ولكننا على يقين أن الفعل آت,قادم لامحالة, من هذا المنطلق لابد من القراءة الواعية لكل التحولات التي جرت وتجري, بقضها وقضيضها, بما لها وما عليها.
تحولات
الملاحظ ان هذه الحرب المجنونة مدفوعة بالضخ الإعلامي والتشويه الفكري, قد عملت على نزعة فردية قاتلة, تكرست عند الكثيرين على مستوى الأفراد والجماعات, ومن باب المثل الانهزامي الذي يقول (ألف عين أم تبكي, ولاتبكي عين أمي) ونسوا أو تناسوا صيحة ذلك السوري الأصيل (الف حبل مشنقة ولايقولوا أبو عمر خاين..).
فردانية بكل شيء, من الحالة العادية, إلى التفكيك الذي ظهر أثنيا, طائفيا, عشائريا عند البعض, صحيح أنه ليس ظاهرة ولايمكن أن يصل إلى ذلك, لكن يتم العمل كمفهوم ومصطلح, ومحاولة إظهاره على انه خلاص لابد منه, لو تابعت مواقع التواصل لوجدت آلاف الدعوات لذلك, نار في هشيم الغباء, وإن غصت اكثر بالبحث عنها لسوف تصل إلى أن معظمها يبث وينطلق من خارج المنطقة, تقف وراءه دوائر دراسات واستخبارات معادية, توغلت في قراءة تاريخنا, ودونت وسجلت,,وعملت على نبش وكر الدبابير التي تشظت بكل مكان, وغدا السجال السخيف, التفكيكي سيد الأزرق, قس على ذلك عائليا, عشائريا, أثنيا, قوميا..
برصد سريع في هذا العالم الأزرق, سوف تجد من يبحث في جذور الوهم, فهذا كذا وذاك كذا, وهذا يعمل على البحث بأصول اللغة العربية بعد أن اكتملت والتم شملها, ويدعو إلى تجزئتها وإحياء ما كان, وكأنه لم ير ولم يسمع أن ذلك يعني الصدع مع كل ما كان, مع يومه, غده, أمسه, يعني طمس هويته الوطنية, هذه النزعات الفردية الخارجة عن كل مألوف ليست ظاهرة أبدا, لكنها غير مريحة, وعلى مبدأ الدق المتواصل يقود إلى صدع ما, علينا ألا نستهين بما نراه ونسمعه, علينا أن نقرأ الواقع تماما للبحث عن العالم السفلي الذي طفا, ومعالجة بثوره ومخلفاتها, وهذا ليس بالأمر السهل الهين.
في الاعلام والثقافة والادب, وكل المؤسسات الوطنية والمجتمعبة مدعوة لفعل ذلك, لابد من استراتيجيات تحلل وتقرأ وترسم الخطط, والمواجهة ليست فعلا كلاميا, وما هو اليوم مجرد خطوط صغيرة قد يغدو فيما بعد صدعا يصعب ترميمه.. وللحديث شجون تتراكم.
d.hasan09@gmail.com
ديب علي حسن
التاريخ: الأحد 13-1-2019
الرقم: 16883