«أوراق دمشقية».. «بعد انحسـار الظلال».. والأورام الإرهابية

«أحداث ومآسي ما سمِّي بالربيع العربي، فرضت نفسها على أغلب الكتَّاب والمفكرين العرب، وقد قسمتهم تطوراتها المأساوية إلى قسمين: قسمٌ انحاز لها عن قناعة أو تبعية وسخّر قلمه وفكره، لا للتبرير أو التفسير فقط، وإنما أيضاً، للتشجيع وتوظيف كلِّ ما تجاوز به، القواعد المهنية والأخلاقية.
قلّة قليلة سجَّلوا رفضهم لاستعمال القوة، واعترضوا على تسليح المعارضة ودفعها نحو الاقتتال، هؤلاء كان صوتهم محاصراً ومحجوباً في وسائل الإعلام الثقيلة خصوصاً.
كان الفلاح الجزائري منهم، وقد عبّر عن رفضه القاطع لكلِّ ماحدث وانتقل شراره إلى سورية».
مقدمةٌ، أراد منها هذا الفلاح، تسجيل انطباعاته حول مايجري في «سورية» التي زارها في أوج أزمتها، ولمعايشة أحداثها التي شعر بأنُ مايتابعه عنها، يثيرُ لديه الكثير من الشك والارتياب،أيضاً، ليقدّم حقائقٍ جمعها مما رآه وسمعه وصوَّره ووثَّقه في كتاب.
إنها «أوراق دمشقية».. أوراقُ كتابٍ اختار الكاتب الجزائري «اسماعيل القاسمي الحسني» هذا العنوان له، لأنه وحسبَ ما وصفه: «ليس دراسة ميدانية جافة، ولا رواية مطعمة بإبداع الخيال، إنما مقالات ترصد ما استطعت مشاهدته ورأيت أهمية تسجيله، مُذ بدأت رحلتي إلى دمشق العروبة-عاصمة سورية، وفي مرحلة تُعدُّ من أصعب المراحل التي مرت بها عبر التاريخ، ذلك أن الحرب كانت قد اشتدت أيام زيارتي التي بدأت في 9 تموز 2014».
هكذا يبدأ «الحسني» الذي يُعتبر أول كاتب عربي مستقل يزور سورية في أقسى مراحلها، هكذا يبدأ منطلقاً من أوراق لاينتهي تدوين الوجع على صفحاتها، وبدءاً من الحديث عن «بداية فوضى الشارع العربي» واستغلال مرتزقة الفتن وتجار الحروب لها، مروراً بالأدوارِ البشعة التي تخطّى ما يتعلَّق منها بالعناصر الإرهابية الأجنبية، إلى ما يتعلّق بالشبابِ الذين حملوا السلاح ضدّ دولتهم تحت شعارات إسلاموية..
«شبابٌ تلقوا تعليماً دينياً يعتمد التيار الوهابي، وقد استقووا بقوة المال والإعلام، وباتوا يعبدون رموز تيارهم وصنَّاعه، ويدينون بفتاويه.. أيضاً، شبابٌ جاهل، ضائع الهوية العقائدية تلقفه الصنف الأول ليوهمه أن الطريق الوهابي هو سبيله لإثبات وجوده وتحقيق كيانه، وبلوغ أهدافه، وهذا الفريق هو حطبُ الفتنة التي يوقدها التيار التكفيري..»..
كل ذلك، إضافة إلى ماكان قد سمعهُ وتابعهُ من آراء ومواقف «كتّابا ومفكرين وإعلاميين وسياسيين ومبعوثين ومحللين وملوكا وقادة ووزراء ورجال دين وطائفيين». كل ذلك، كان سبباً في إصراره على القدوم إلى «سورية» ومشاهدة واقعها، ومعايشة وتوثيق أحداثها.. توثيق ماشاهده مُذ لحظة هبوطه على أرض مطار دمشق الدولي، وصولاً إلى الفندق الذي شعر فيه، بأن أكثر مارآه وآلمهُ على مدى طريقهِ إليه: «آلمني كثيراً منظر الأشجار على جانبي الطريق المزدوج وهي شاحبة اللون، يعلوها غبار المعارك، كأنما تعرب عن حزنٍ تكتَّمهُ كبرياء هذا البلد العربي الجريح،تلوحُ من حينٍ لآخر أحياء كبيرة، هُجرت بعد أن اقتحمها الإرهابيون واحتلُّوها..»..
تتوالى مشاهداته بتوالي جولاته التوثيقية، وفي المناطق والمدن المشتعلة أو الآمنة، وسواء في دمشق أو حتى المحافظات السورية.. تتوالى مشاهداته على مدى لقاءاته وحواراته، ومع سياسيين ووزراء ودبلوماسيين وإعلاميين وأهالي شهداء وقادة شعبيين وعسكريين ورجال فكر ومعارضين وطنيين.
تتوالى أيضاً أوراقه، وعن كل مارآهُ في دمشق ولاسيما القديمة التي كان أكثر مالاحظهُ فيها ولفت انتباهه: «أمور كثيرة تشدُّ انتباه زائر دمشق القديمة، أكتفي منها بملاحظتين لم أرهما في كل البلدان التي زرتها، خاصة تلك التي يمثل سكانها فسيفساء دينية وطائفية وعرقية متركزة في مساحة جغرافية صغيرة نسبياً..
الأولى: يتعذَّر على الزائر التمييز بين الناس، سواء سكان المدينة القدامى، أو الوافدين إليها للتسوق أو لأداء واجبات اجتماعية، فلكلِّ أبناء سورية على اختلاف أعراقهم وأديانهم وطوائفهم موطأ قدم في دمشق، وليس هناك أي مظهر يميز بين طائفة أو عرق أو دين من تلكم الحشود، خلاف الصورة التي روَّجت لها بقوة، وسائل الإعلام ووسائط التواصل..
الثانية، تعكس جذر هذا التجانس والتعايش الاجتماعي، عبر الحقب التاريخية الدمشقية، وهو وجود كنائس لايفصلها عن المساجد، إلا جدار مشترك».
هذا ما لفته في مدينة، تحدث مع من التقاهم فيها، بأن وطنه الجزائري كان قد تعرض لجرائمٍ لاتقلُّ بشاعة عما يتعرض له الوطن السوري. جرائمٌ تقوم بها مجموعات تكفيرية تحمل توجهاً وسلوكاً واحداً، ولها مرجعيَّتها الوهابية.
لاشكَّ أنها رسالته التي سعى لإيصالها على مدى شهرين من إقامته في سورية التي أتاها في مرحلة، مثلما كانت من أصعب مراحلها، كانت كذلك من أصعب المراحل التي عاشها.. ذلك أن مرض السرطان الذي يعاني منه، كان قد استشرى في جسده وأبى إلا أن يرافقه، وأينما تجوّل وحيثما تأمَّل، ودون أن يمنعه ذلك من كتابة المقالات عن الحربِ وويلاتها، عن الحقائق التي وثقها حتى في قاعة العلاج ذاتها.
أخيراً يطوي أوراقه، ويقرر «بعد انحسار الظلال» العودة إلى بلاده، يطويها بعد أن حملها الكثير الكثير من صور ودلائل تشتُّت الأمة بسبب خونتها وجشع معارضي أنظمتها، الأعداء الذين اتَّكلوا على حكامٍ مثلما تآمروا على شعوب مغلوبة على قهرها، تآمروا على «سورية» التي كانت خلاصته من الرحلة إلى قلبها.
«خرجت من سورية وهي في ذروة أزمتها، وكان خلاصة ماعايشته فيها، ألمي البدني والنفسي نتيجة صراعي مع مرض السرطان، لايُعدُّ شيئاً يُذكر أمام آلام جسد أمة تنخره خلايا سرطانية لها آثار تدميرية.
عسى أن تُحدث المقاومة العربية الأصيلة مفاجأة في لحظةٍ ما، بمكانٍ ما.. تقلب الطاولة على المخطط الغربي الذي يُستثمر في زواريبِ نخبٍ عربية سياسية، تطبَّعت بالسفهِ والغباء والعمالة»..
يبقى أن نقول: «إسماعيل القاسمي الحسني» من الكتاب الجزائريين القلائل الذين استطاعوا فرض أقلامهم على الصحافة الدولية والعربية، ومن خلال كتاباتٍ تبيِّنُ اطلاعه الواسع على ملفات المنطقة.
«الفلاح الجزائري» هو الاسم الذي اختاره لإمضاء مقالاته المتنوعة، ويؤكّد باختياره له، قوّة علاقته بالأرضِ، ويدلُّ على ذلك قوله: «انتهت حرب الفتنة عام «2000» وطوت الجزائر دولةً وشعباً، صفحة دامية من الدماء والمآسي الإنسانية،لم أنقطع أثناء مزاولتي للفلاحة التي عشقتها عن متابعة أخبار العالم وخاصة العربي.. هذا العالم، شكّل مع عزلتي في المزرعة، حركة فكرية تدفع عني وحشة العزلة ولاسيما بعد نزوح سكان منطقتنا الفلاحية، بسبب تهديد الجماعات الإرهابية..»
هفاف ميهوب
التاريخ: الثلاثاء 15-1-2019
رقم العدد : 16883

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم