يدخل السجال الأميركي التركي المحظورات ويخطو خطوات داخل المنطقة المحرمة في العلاقات الثنائية، التي رسمت على مدى عقود خطوط تقاطع وقواعد اشتباك صارمة، حالت في أصعب الظروف دون الانزلاق إلى مواجهة تتخطى الهوامش المتفق عليها، رغم المناكفات التي كانت في أغلبها للاستهلاك الإعلامي الخارجي، أو للترويج لمواقف ترفع من منسوب النقاط المسجلة على خصوم الداخل، وفي بعضها كانت تصل إلى حدود الاشتباك السياسي والإعلامي مع اصطفافات آنية سرعان ما تتعدل مع أول انعطافة تقتضيها التفاهمات الاستراتيجية، حيث كان الاتصال الهاتفي بين ترامب وأردوغان كافياً من حيث الشكل لتبديل المقاربة.
لكن ارتفاع منسوب التهديد والوعيد الأميركي فتح الباب على مصراعيه أمام التكهنات السابقة، التي كانت تؤشر إلى احمرار العين الأميركية من التلاعب التركي على حبال المواقف المتذبذبة، والتي راجت في السنة الأخيرة على وجه التحديد، وذهب النظام التركي إلى حد التباهي بمعاندة الأميركي في قضايا وسجالات مفتوحة على العلن حول قضايا تكتيكية لم تصل في أي لحظة إلى حدود الانعطافة في المقاربة التركية، خصوصاً أن أبعد ما ذهب إليه النظام التركي كان الترويج للخلافات مع واشنطن واستخدامها ورقة للضغط على الآخرين، وأحياناً للابتزاز في معرض اللغو الذي كان يفيض عن الحاجة التركية في كثير من الأحيان.
أول التداعيات أن الصوت التركي المرتفع أكثر من الحاجة عاد إلى الحديث بطبقة أقرب إلى المهادنة.. وبلغة تنحو إلى طلب المصالحة، وربما الصفح عما بدر، وبرزت على وجه الخصوص في المقارنة التركية بين ما يجوز لأميركا وما يصح عملياً، وإن كانت التداعيات الموازية وتحديداً الاقتصادية لا تأخذ بالتطمينات ذات البعد السياسي التي تشكو خلوها المسبق من أي رصيد فعلي، فكانت الليرة التركية أولى الضحايا حين تراجع سعر الصرف على نحو أثار المخاوف من جديد، وأعاد إلى الأذهان تجربة الإجراءات التي أعقبت احتجاز الكاهن الأميركي، وصولاً إلى التبعات التي لا تزال تعاني تركيا من آثارها، ولم تتعافَ من مخلفاتها التي تراكمت تباعاً.
المشهد التركي الذي أرغد وأزبد في التهديد والوعيد يحاول أن يعيد ترتيب أوراقه على نحو يأخذ بعين الاعتبار التجربة الماضية القاسية، والتي كانت في التعبير الدارج مجرد «شدة أذن» متواضعة أمام السيل الذي أخرج الأميركي عن سكة الدبلوماسية، ليأتي صدى تعبير الرئيس ترامب على نحو مباغت لم يتوقعه التركي، ولم يضع في حسبانه أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، خصوصاً لجهة الرد الأميركي الذي يعكس أدبيات النهج الذي اختطه الرئيس ترامب مع بقية دول العالم في التعبير الفج والمباشر عن أفكاره على نحو صادم، وهو ما أفسح في المجال أمام تكهنات إضافية لا تخرج الاتهامات التركية حول مخاطر الهيمنة الأميركية عن سياقها الوظيفي.
التداعيات في قراءة أولية تتدحرج على بساط العلاقة الأميركية التركية على نحو لم يسبق لها أن شهدته من قبل، وبالتالي من الصعب الجزم بالنهايات المتوقعة أو القاع الذي ينتظرها، وهو ما يتيح المقارنة على نحو ملح قياساً إلى تجربة بعض العقوبات الأميركية، التي أوصلت الاقتصاد التركي إلى عنق الزجاجة، حيث إن سجال الوهم الذي كان يتشدق به النظام التركي كشف أنه نمر من ورق، وتؤشر إرهاصاته الأولى أن التورم السياسي التركي بدأ رحلة الاضمحلال، والاستطالات المرضية الناتجة عن أوهامه بدأت بالانحسار على ضوء مقاربة تعيد النظام التركي ورئيسه إلى الواقع بعد سنوات من تورم الوهم والمتاجرة الرخيصة بتبعاته ومرفقاته.. والأكثر بكذباته.
a.ka667@yahoo.com
الافتتاحية بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الثلاثاء 15-1-2019
الرقم: 16885