على الرغم من أنها واقعياً لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها إلا أن الخلافات حول تأثيراتها واستخداماتها مستمرة على جبهات عديدة، فالحديث حول تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي نجده اليوم يتركز حول شريحة الشباب والمراهقين أكثر منه حول الشرائح العمرية الأخرى، ولعل ذلك يعود لكونهم الفئة الأكثر تعلقا واستخداما لهذه الوسائل بطرق قد لا تكون مرضية للمحيطين بهم وبخاصة الأهل، أو لأن استخدامها لا يأتي دائما لتحقيق أهداف ذات فائدة علمية أو معرفية أو اجتماعية معينة من هنا يمكن تسليط الضوء على هذه الإشكالية من باب التفريق بين الاستخدام والإدمان، والتأثيرات السلبية لذلك.
آراء أكاديمية
يقضي معظم الشباب أوقاتا طويلة أمام مواقع التواصل الاجتماعي من فيس بوك وواتس آب وتويتر ويوتيوب وانستغرام وغيرها وهذا بحد ذاته كان حافزا لمزيد من الدراسات والآراء الأكاديمية والتي أظهرت بعض الاختلافات في نتائجها، فقد أكد الباحثون في دراسة أجرتها الجمعية الملكية للصحة العامة أن سناب شات وانستغرام من أكثر التطبيقات ضررا على الصحة النفسية للشباب لأن كلتا المنصتين تركزان على الصورة وتدفعان للشعور بمشاعر القصور والقلق والوحدة لدى الشباب، محذرة من الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي وتأثيراتها السلبية وبخاصة في موضوع النوم والخوف والاضطراب. وفي دراسة أخرى أجراها باحثون في جامعة بريطانية أن مواقع التواصل الاجتماعي لا تؤثر سلبا على التفاعلات المباشرة بين الأشخاص وإنما الأمر يتعلق بالوقت الذي يشكل عنصرا هاما تجب مراعاته حتى لا يصل هؤلاء إلى مرحلة الإدمان. وفي دراسة قامت بها جامعة دمشق في العام الماضي حول علاقة الشباب السوري والشبكات الاجتماعية بينت أن 80% من الشباب السوري الذين شملتهم عينة البحث يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة الفيس بوك بشكل كبير جدا حيث يتفوق الذكور على الإناث في مدى اعتمادهم عليه في علاقاتهم واعتباره مصدرا للمعلومات، وأوضحت هذه الدراسة الأثر النفسي لمختلف مواقع التواصل الاجتماعي على فئة الشباب والأضرار الصحية الناتجة عنها في حال الإدمان المتوسط والمرتفع.
إشارات اجتماعية
من جانبه أكد الباحث محمد أحمد عيد خبير في العلاقات الإنسانية والتنمية المستقبلية: أن التواصل والانفتاح هما ميزتا المجتمع الحديث، والمجتمع السعيد هو مجتمع تواصلي بامتياز، ينشغل أفراده ببناء الصداقات والعلاقات والقيام ببعض المسؤوليات والمشاركة الاجتماعية، ومن المعلوم أن المهارات الاجتماعية، والتفاعل المباشر هي سمات يحتاجها معظم الناس منذ الطفولة وأثناء نموّهم وتفاعلهم مع الأطفال الآخرين، فكل اختبار شخصي ملموس وواقعي يجرّبه الطفل والمراهق والشاب ينمّي مهاراته وملكاته، فينجح ويفشل من خلال تفاعلات كثيرة، تنمي أيضاً قدرته على قراءة إشارات التواصل ولغة الجسد، كعنصر رئيس في التواصل الاجتماعي الواقعي، في حين أن وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني تحدّ بشدة التفاعل والإشارات الاجتماعية عبر لغة الجسد وتضعفها بين الأطفال والمراهقين، خلال فترة حاسمة في حياتهم، يُخشى بعدها فقدان هذه المهارة الأساسية لنمو الشخصية وخلق مشاكل في العلاقات الاجتماعية الحقيقية، إذا لم يقلص المراهقون من استعمال هذه الوسائل، لذا من المهم جدًا معرفة الآثار المحتملة من وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب والمراهقين وتتبع صحتهم النفسية وتأثير استخدامهم لهذه الوسائل، والبقاء متيقظين للسلوكيات الناتجة من الجلوس الطويل إليها، للحد من خطر المشاكل الناجمة عن الاستعمال غير السليم لها.
الاختلاف عن الواقع
وركز عيد: على أن ازدواج أو تعدد أو اختلاف أنظمة القيم التي يتعرض لها المراهق أو الشاب هو أمر له تبعاته، فنظام القيم في المجتمع يوجه مسار حركة السلوك فيه، والمراهقون قد لا يفرّقون بين حياتهم في عالم الواقع وحياتهم الافتراضية على شبكة الإنترنت، ويخلطون بينهما بشكل يؤثّر على حياتهم الواقعية سلبياً، فالذات فضولية، تريد أن تَعْرِف وأن تُعرَف، فتشعر بالانتصار حينما تَعرِف، وحينما تُعرف. وأي كائن نزوع إلى المعرفة، والمراهقون لديهم شغف كبير وفضول مرضي لمعرفة ما يحدث على وسائل التواصل في غيابهم، وبعضهم يتفقد وسائل التواصل الاجتماعي عشرات المرات في اليوم، ولديهم رغبة قوية بمشاركة الكثير من تفاصيل حياتهم وعلاقاتهم من خلال حساباتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وهو ما يجعلهم معرضين لمخاطر مستقبلية واسعة، فمثل هذا التواصل يلبي أيضاً، بشكل أو بآخر، أعمق الدوافع في الطبيعة البشرية في أن يكون الشخص مهماً، أي أن هذه الوسائل تشعر المراهقين والشباب بأهميتهم، والشعور بالأهمية هو أشهر نقاط الضعف الإنسانية، لكن قد يكون حصاد مثل هذا التواصل للأسف هو الوهم.
كي لا نصل متأخرين
من جهة أخرى يوضح خبير العلاقات الإنسانية والتنمية أنه ليس من الصواب القول بأن وسائل التواصل الاجتماعي سيئة بشكل عام، فهي من أكثر وسائل التواصل ذكاء من حيث استقطاب مستخدميها، ولها تأثير عليهم بأشكال مختلفة، تبعاً لظروفهم المسبقة، وسمات شخصيتهم، لكن المقصود هنا أنه علينا توظيفها توظيفًا إيجابيًّاً، واستثمارها واستخدامها لتكون أداةً لتنمية المجتمع والرقي بأبنائه، وإجراء الدراسات والبحوث بشأنها، وتحليل البيانات، والخروج بتوصيات تسهم في التصدي لسلبياتها أو الحد منها، فأي شخص قابل لأن يكون ضحية هذه الوسائل وأي مراهق أو شاب غير قادر بمفرده على مواجهتها… في حين أنه يمكن، من خلالها أيضاً، تحقيق فوائد عديدة في حياتنا، إذا استُخدمت بوعي واعتدال، لأنه كلما ارتفعت معدلات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني من قبل المراهقين والشباب كلما شكلت تهديداً حقيقياً للعالم الواقعي لهم، وأثرت سلباً على حياتهم وحالتهم النفسية وسلوكهم، وعلاقاتهم بمن حولهم، وعلى ذكائهم الاجتماعي، ويتحول تعلقهم بهذه الوسائل والإفراط في استخدامها إلى إدمان سلبي، يجعلهم معرضين لمخاطر واسعة لا يسعنا ذكرها كلها الآن، فقد تتسبب في إحداث مشاكل خطيرة للصحة الجسدية والعقلية للمستخدمين، وتجعلهم أكثر عرضة لصعوبات نفسية وعاطفية، كالاكتئاب والقلق غير الطبيعي، أو ربما العدوانية المفرطة، أضف إلى ذلك الإصابة باضطرابات النوم وأذية العيون، والكسل وزيادة الوزن أو العكس، حتى إن بعضهم قد لا يتناول الطعام حتى لا يترك الهاتف المحمول، ويشعر بفراغ داخلي كبير لو ابتعد لساعات عنها، ولاشك في أن تراجع معدل الدرجات لكثير من الطلاب أحد أسبابه الأساسية التلهي باستخدام الأجهزة اللوحية في تصفح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي خلال أوقات الدراسة، وآمل ألا يأتي يوم يصنّف إدمان وسائل التواصل الاجتماعي في المستقبل كسلوك مرضي، لندرك حينها فقط متأخرين مدى التأثير الذي أحدثه الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني على صحة أبنائنا ومجتمعنا.
ميساء الجردي
التاريخ: الجمعة 18-1-2019
الرقم: 16888