الملحق الثقافي ..د. محمود شاهين :
تستدعي كلمة (فنان) إلى ذهن المتلقي العربي، معاني لا حصر لها، لاسيّما بعد تشعب استخداماتها في الحياة اليوميّة. فهذه الكلمة، دون ربطها باصطلاح آخر، لا تعني شيئاً محدداً، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى كلمة (فن) العائمة والملتبسة التي صارت تعني كل شيء ولا شيء في الآن نفسه، حيث باتت كلمة (فن) مقرونة بعشرات الفعاليات الإنسانيّة المعاصرة، من بينها ضروب الإبداع المختلفة، والحِرف، والمشغولات اليدويّة، وتنسيق الحدائق، والسياسة، والطبخ، والحب بأطيافه كافة، والتسويق… الخ.
الأمر نفسه، ينسحب على كلمة (فنان) التي أصبحت تطلق على التشكيلي، والسينمائي، والمسرحي، والتلفزيوني، والسياسي البارع، والمحامي الضليع، والراقص أو الراقصة، والمعمار، والميكانيكي، ومنسق الحدائق، ومرتب طاولات الطعام، ومربي الأطفال… وغير ذلك من الحِرف والمهن والمهام والوظائف التي تستدعي وجود إنسان مذوق، أنيق، قادر على منح صفة الكياسة، والنظام، والترتيب، والجمال، لما يقوم به، في حياته اليوميّة.
من هو الفنان؟
استناداً إلى ما تقدم، يبرز تساؤل مشروع وضروري: من هو الفنان حقاً؟ هل هو إنسان عادي كبقية الناس، أم هو متميز عنهم بصفات ومواصفات خاصة؟ هل له حياته الخاصة، وسلوكه الخاص، وشكله المميز؟ هل للفنان أجواءه الخاصة، وحياته المختلفة؟ أم هو إنسان عادي كبقية خلق الله؟
في الإجابة على جملة هذه التساؤلات، تتعدد وتختلف الآراء والاجتهادات والتفسيرات، فحين يؤكد البعض أن للفنان حياة سوية وعاديّة كغيره، لكنه كمبدع، لا بد من أن يحمل في أعماق نفسه ثنائيّة حادة تُعبّر عن تناقض القدرات الكامنة فيه. فهو من ناحية، موجود بشري يملك حياة خاصة، ولكنه من ناحية أخرى، عمليّة إبداعيّة لا شخصيّة!! وبناءً عليه، ورغم كون الفنان موجوداً بشرياً، إلا أنه قد يكون سوياً عادياً، أو مريضاً شاذاً، وتالياً يمكننا عن طريق فحص بنيته النفسيّة، الاهتداء إلى مقومات شخصيته، ولكننا لا نستطيع أن نفهمه بوصفه فناناً يملك مقدرة فنيّة خاصة إلا بالنظر إلى تحصيله الفني، وإنتاجه الإبداعي.
مادة خصبة للدراسة
شكلت شخصيّة الفنان قديماً وحديثاً، مجالاً رحباً ومغرياً للدراسات والتحليلات والتأويلات، لاسيّما من قبل جماعة علم النفس التحليلي الذين وجدوا في شخص الفنان مادة خصبة لدراساتهم، حيث لاحظوا أن حياة الفنان مليئة بشتى ضروب الصراع النفسي الناشئة عن ازدواجيّة شخصيته. مع ذلك، وعلى الرغم من أن الفنانين لا ينفردون بين سائر الناس، بقدرة خاصة على إدراك محتويات اللاشعور الجمعي، لأنه قد يحدث إبان الأزمات الاجتماعيّة، عندما ينهار الرمز الذي يقدسه المجتمع، أن تظهر بعض مكنونات اللاشعور الجمعي في أحلام الأفراد، إلا أن من شأن الفنان بصفة عامة، والشاعر بصفة خاصة، أن يشهد مكنونات اللاشعور في اليقظة، على حين يراها غيره في المنام، وتبعاً لذلك، فإن عمل الفنان لا بد وأن يشبع الحاجة الروحيّة للمجتمع الذي يعيش في كنفه. بمعنى أنه لا بد من أن يضطلع بمهمة إعادة التوازن النفسي إلى الحقبة التاريخيّة التي ينتسب إليها، على حد تعبير الدكتور زكريا ابراهيم.
عاشق مهنته
من جانب آخر، يجد البعض أن كلمة فنان بمعناها الواسع، إنما تعني كل امرئ يجد لذة كبرى فيما يعمل. أي هو رجل يعشق مهنته، وأثمن مكافأة يظفر بها الفنان هي اغتباطه بتحقيق عمل جيد، ولن يظفر العالم بالسعادة الحقة إلا حينما يتهيأ للناس أجمعين أن يكتسبوا روح الفنان. فالفن درس رائع في الإخلاص. والفنان الحقيقي، يشعر أثناء اجتراحه لفعل الفن وبعده، بمتعة عارمة هي متعة الإبداع والابتكار، وهي متعة ذات نكهة خاصة وفريدة لا تضاهيها متعة أخرى على الإطلاق، غير أن هذه المتعة سوف تتضاعف إذا أمكن للآخر مشاركته بها.
فالفنان، وعبر العصور التاريخيّة المختلفة، كانت له حظوة خاصة لدى مجتمعه وشعبه: فقد قدره المجتمع واحترمه الشعب، وتبنته السلطة أو الدولة، وقدمت له الإمكانات والدعم والرعاية، ليبدع وينتج الفن الذي كان ولا يزال، أهم مظاهر الحضارة، وأغنى أنواع الكنوز التي تحرص عليها الأمم، وتعتز بامتلاكها الشعوب.
لذلك كله، فقد كان للفنان موقع متميز في مجتمعه، خاصة المجتمع المتطور الذي يرى أن الفنان يُشكّل امتيازاً لا يتكرر، وظاهرة قلما تُعاد أو تتكرر بالخاصيّة نفسها، والملامح ذاتها، والنكهة إياها. لهذا نرى بعض هذه المجتمعات والدول المتطورة، تمنح بعض فنانيها المتميزين والمبدعين، امتيازات عديدة، لا يحصل عليها أي مسؤول فيها، مهما علا شأنه، وتعددت مهامه السياسيّة والإداريّة، إذ من السهل صنع الوزير، والمدير، وبالمئات، كل يوم، لكنه من الصعب، والصعب جداً، صنع الفنان المبدع والموهوب!
بين الفنان والعَالِم
يحلو للبعض، المقارنة بين شخصية (الفنان) وشخصية (العَالِم)، فيرى البعض منهم أن عبقريّة الفنان، بالقياس إلى عبقريّة العالم، كثيراً ما تكون أكثر شمولاً، حيث أن موهبة الباحث تتركز عادةً على موضوعه، أما موهبة الفنان فهي موجهة إلى موضوعات متعددة، وعاطفية الفنان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقدرته الخارقة على الملاحظة. لذلك من الخطأ الاعتقاد أن الفنان عاطفي من أعماق روحه، وأن عملية تهيجه لا تحتاج الى تغذية بالملاحظة الدائمة للواقع الحقيقي، بألوانه كافة، لارتباط عاطفته بهذا الواقع. إذ أن عاطفته، وقدرته على الخيال والحدس، لا تلتهب في شعلة مضيئة ما لم تؤججها شعلة الحياة، وحرائق الواقع، وعذابات الإبداع.
إن قوة الخيال الإبداعي للفنان، تعتمد على المعرفة الصادقة للواقع، خلال عملية ملاحظته ودراسته للعالم الواقعي. ولكن الواقعيّة بجوهرها، تعادي التجريديّة الزاحفة التي تمارسها الطبيعة الوضعيّة الخرساء اللامجنحة التي تركض لاهثة وراء الحياة المتطورة دون أن تستطيع الإمساك باتجاهها القائد.
بمعنى آخر: الإلهام الحقيقي لا ينتاب الفنان إلا عندما تستولي عليه الحياة بكل غنى مظاهرها، وبكل عمق محتواها، فالفنانون العظماء، بغالبيتهم كانوا أناس عصرهم، ليس بفنهم فقط، وإنما في المجال الاجتماعي الواسع، على الرغم من أن الظروف التاريخيّة المعقدة التي كانت أحياناً تحدد تناقضات آرائهم السياسيّة والاجتماعيّة. على هذا الأساس، فإن الفنان إنسان عصره ومرآته في آنٍ معاً.
معارف الفنان
تتجمع معارف الفنان من الخبرة العمليّة، والممارسة المتسمرة لفعل الإبداع، ومن الملاحظة القويّة والدائمة لحركة الحياة الصاعدة باستمرار، والمتجددة بشكل دائم. من هنا، على الفنان التجذر في تربة الحياة، والاحتراق بتحولاتها الدائمة، فهذا وحده يمنحه عمق الرؤيا والمقدرة على الإضافة والفعل والتأثير بالناس.
إن أي فن لا يُمهر بخاتم الحياة، ويتلون بألوانها، وينهض من حرائق الواقع، من أجل الناس ولهم، هو فن محكوم عليه بالسقوط ودخول متحف البرودة والعبث الذي لا طائل منه، ولا نكهة له. ولكي يبدع الفنان، ويستمر في العطاء، لا بد له من امتلاك ملكة روحيّة هي: رهافة الحس، والقدرة على التجاوب الدقيق مع مظاهر عالم الآخرين الروحي، على أن يعكس بوعيه مشاعرهم وآرائهم، ويتعاطف مع الناس ويشاركهم المعاناة مشاركة وجدانيّة عميقة، وليس عبثاً أن يُقال على المبدع الحقيقي بأنه حاسة بلاده وطبقته وأذنها وعينها وفؤادها.
بالمقابل، ولكي يكون الفنان كل هذه الخصائص مجتمعة، لا بد له من مقدرة على التخيل وتجميع الرؤى، وخلق الجديد المتميز من أشكال الفن. فأبرز سمة للفنان هي ملكة المخيلة المبدعة، وخلق الصور الفنيّة الجديدة التي ينعكس فيها الواقع بصورة مؤوّلة. ولكي تكون ثمار المخيلة المبدعة متاحة للآخرين، ومؤثرة في عالمهم، يجب أن تكون مجسدة في مادة مناسبة أكثر كمالاً وصموداً في وجه الزمن من وسائل إيصال الإرادة والمشاعر الشخصيّة. ولكي ينجح الفنان في مهمته الإبداعيّة، لا بد له من امتلاك موهبة. أي مجموعة قابليات مهنيّة خاصة، قادرة على التجسيد العملي، لثمار المخيلة المبدعة في مادة مناسبة.
وسيلة التعبير
المادة المناسبة هذه هي (وسيلة التعبير). أو المادة الحاضنة لثمار المخيلة والقادرة على نقلها إلى الناس، بكل صدق ودفء ووضوح. ولتحقيق ذلك، لا بد من مواكبة وسيلة التعبير لتخيلات المبدع، ما يحتم إلمام الفنان بهذه الوسيلة، وتمكنه من أسرارها، وقدرته على تطويعها لأفكاره وخيالاته، بغض النظر عن نوعها أو جنسها. بمعنى أن يكون مسكوناً بشخصية الفنان المبتكر، والحرفي القادر على أن يسكب ابتكاراته وإبداعاته في مادة أو وسيط قادر على احتضانها وتقديمها للآخر.
رسالة الفنان
على هذا الأساس، فإن للفنان رسالة عليه أن يؤديها في الحياة وللحياة، ومهمة تتلون وتتعدد أشكالها، لكن في جوهرها تبقى واحدة كقيمة وأهميّة وقدرة على التأثير في الأجيال الحاليّة، ونقل رسالة إلى الأجيال القادمة، ذلك لأن الفنانين -على حد تعبير الدكتور زكريا ابراهيم- هم مكتشفون لا يهدؤون إلا حينما تطأ أقدامهم أرض ميناء جديد، وليس على متذوقي الفن سوى أن يلاحقوا أولئك الرواد الممتازين في جولاتهم الكشفيّة التي لا تكاد تعرف نهاية. إن الفن مهمة لا يمكن أن تنتهي، فإن في توقفها إنكاراً لذاتها.
التاريخ: الثلاثاء 29-1-2019
رقم العدد : 16896