ثَمّةَ أعمالٌ أدبيّةٌ وفنيّة مُختلفة شكّلت مُنعطفاً في تاريخِ جنسها، وجعلت مسيرة الإبداع في هذا الجنسِ نفسه تُغيّر طريقها أو لنقلِ – على الأقل- تُعدِّلُ من مسارِهِ، أو تحرف اتجاههُ، وهذهِ الأعمال لم تُخْلَق مُصادفةً، أو تُنتَج بصورةٍ عابرةٍ، أو تُفْرَض من قبل قوىً غيبيّةِ خارقة، لكنها جاءت حصيلة عملٍ إبداعيٍ طويلٍ ودؤوبٍ، حصيلة معرفةٍ عميقةٍ في تاريخ هذا الفن أو ذاك، وممارسة تجريبيّة جبارة، وشجاعة في طرحِ الأشياء والأفكار، ويستطيعُ أيٌّ منا الآن أنّ يسميّ بضعةَ أعمالٍ شعريّةٍ وروائيّةٍ وفنيّةٍ تشكيليّةٍ وسينمائيةٍ أدت مثل هذا الدور؛ ففي الشعر الأنكلوسكسوني رُبّما نرى أن «الأرض اليباب أو الخراب» للشاعِر ت. إس. إليوت واحدة من تلك الأعمال؛ وفي الشعر العربي الحديث قد يتفقُ كثيرون منا على «أنشودةِ المطر» للسيّاب، وفي الروايةِ مثلاً سنجد الكثيرين يرونَ روايةَ « المسخ» لكافكا واحدة من تلك الأعمال؛ حتى أن ماركيز نفسه يُصرِّح أنّه استعارَ ذاتَ يومٍ من صديق له تلك الرواية، وحين بدأ بقراءة الأسطر الأولى منها أُصيبَ بالذهول: «استيقظَ غريغوري سامسا صباحَ ذلكَ اليوم من كوابيسه، ووجدَ نفسه وقد تحوّلَ إلى حشرةٍ ضخمة»، قال ماركيز بعد ذلك: «لم أنم بعدها مُطلقاً بسكينتي السابقة، لقد حَدَّدَ هذا الكتابُ اتجاهاً جديداً لحياتي منذ السطر الأوّل».
وفي مجال الفن التشكيلي ثَمّةَ أعمال غير قليلة أدت مثل هذا الدور على عتباتِ مراحلَ فنيّة، أو عصور مُحدّدة؛ منها لوحةٌ نظرتُ إليها من قبلُ كثيراً وما استسغتُها، بل ما أحببتُها؛ رُبّما بسبب تربية ذائقتي الفنيّة الأميل إلى التقليديّة، ثُمّ رحتُ أقرأ عن هذهِ اللوحة حتى إذا أحطتُ بمعلوماتٍ معقولةٍ عنها، بدأتُ أنظر إليها بصورة مُختلفة؛ إنها لوحة «نساء أفينيون» للرسام الإسباني الشهير بيكاسو(1881-1973)، وهو فنانُ التحوّلاتِ العميقة، التي يمكن أن نردَّها إلى عدم قناعتِهِ بالثباتِ والجمودِ في نظرتِهِ إلى الفن التشكيلي، بل إلى العالم، وقد اقترن ذلك بدراستِهِ لتجاربِ الفن السابقة له بمدارسها المختلفة، ولنتاجِ مُعاصريه، ولقد درس الانطباعيّة بعمق، وتوقّفَ مليّاً عند تجربةِ سيزان وأفادَ منها في تحليلِ موجودات الطبيعة وردّها إلى حجومٍ وأشكالٍ هندسيّة.
رَسَمَ بيكاسو لوحته الشهيرة «نساء أفينيون» بين عامي 1906 – 1907 وقد شكّلت برأي الكثيرين ثورةً في مجالها في القرن العشرين… ولم يستطع بيكاسو عرض هذهِ اللوحة حتى عام 1937، ولعل ما منعه عن ذلك الهجوم الذي تلقّتهُ اللوحة من مختلفِ نُقّادِ الفن، الذين استنكروا خروجها على المفاهيم المألوفةِ، فقد استطاعت – وفق تعبير جون بيرجه – أن تصِدمَ العقل الُمتمدِّن، وأن تهاجمَ ميوعةَ القرن العشرين من حيث توجهِهِ فنياً نحوَ إبهار الناظِرِ بجمالِ مَفاتن المرأة بصورةٍ رخيصةٍ ومُباشرة.
من ينظر إلى «نساء أفينيون»، يُبصِرُ خمس – نساءٍ عاريات يشبهنَ «سُبْحَةً من التوائم الخشبيّة المضلّعة»، لهنّ عيون تُحدِّقُ فيكَ بجحوظ، أو لعلها تُحدِّقِ فيما تخشاه؛ في المجهول، في الموت، ولعلَّ بيكاسو قد رسم هذهِ اللوحة تحت تأثير مشاهَدَ انطبعت في ذاكرتِهِ لبعض مومساتِ دار بغاءٍ في برشلونة، شارع أفينيون، فعبّر من خلال نظراتِ هؤلاء النسوة عن امتعاضهِ وحقدِهِ على الطريقة التي يتعامَلُ بها بعضهم مع المرأة، وكيف يستغلّها، ولقد وظّف بيكاسو ثقافته الفنيّة العميقة في العمل من خلال استخدامِ تقاناتِ النحت الإسباني القديم (النحت الأيبري) وكذلك الأقنعة الأفريقيّة، فألبَسَ هذهِ الأقنعة لامرأتين في يمين اللوحة!
وكانَ أن تحوّلت أعمالُ بيكاسو إلى عدوى أسلوبيّة، اجتاحت عدداً غير قليلٍ من فناني الحداثةِ وما بعدها.
إضاءات
د. ثائر زين الدين
السابق
التالي