الملحق الثقافي..ناظم مهنا :
«المسرودات في العالم لا تُعَدُّ ولا تُحصى»
رولان بارت
لماذا السَّرد والرواية؟ وما الحد الفاصل بين الرواية والسرد؟
يقول رهط من المفكرين المعاصرين: «إن السرد شامل، يشمل كل مناحي الحياة؛ الفلسفة سرد، والتاريخ والأدب، والحياة الفردية والجمعية». وفي رأي رولان بارت، المسرود حاضر في الأسطورة، وفي الخرافة، وفي الحكاية الرمزية، وفي القصة القصيرة، والملحمة والرواية، والمسرحية، والمأساة، والدراما، والملهاة، والإيماء، واللوحة المرسومة، والزجاج المرسوم، والسينما، والترويحات الهزلية، والحوادث والمحادثة، وكذلك فإن المسرود موجود بكل أشكاله وفي جميع الأزمنة والأماكن والمجتمعات؛ بل إنَّ المسرود بدأ مع فجر البشرية، ولا يوجد، ولم يوجد في أي مكان من العالم شعب بلا مسرود، والطبقات كلها والمجموعات البشرية كلها لها مسرودات. والمسرود، في رأي بارت، يسخر من الأدب الجيد والأدب السيئ، فهو عالمي وعابر للتاريخ والثقافات، إن وجوده كوجود الحياة.
نقطع هذا الاستطراد الطويل عن السرد، ونتوقف عند الجملتين الأخيرتين في السطرين الأخيرين: «لا يوجد شعب بلا مسرود» و«المسرود عالمي وعابر للتاريخ، ووجوده كوجود الحياة».
بناء على ما تقدم، وبما أننا في حضور الأدب، وفي محور مخصَّص للرواية العربية، نحن شعب لنا إرث سردي عريق ومنجز تراكمي، كمي ونوعي، في المسرود، ربما يشكل أو نطمح أن يشكل رافداً مهماً أو مكوناً أساسياً في عمارة السرد الكونية، كيف لا؟ ونحن شعب الحكايات والمرويات القديمة من ملحمة جلجامش، إلى كرونثيوس السردي إلى أبوليوس وهزليات لوقيانوس الفلسفية، مروراً بألف ليلة وليلة ونثريات المعري، إلى الرواية العربية الحديثة والمعاصرة. وإذا أردنا أن نذهب بعيداً في القدم فنحن ننتمي، باعتزاز، إلى منطقة ينابيع سردية متفجرة ومخزونة، تحتاج إلى حفريات معرفية تليق بها.
وإذا سلمنا بمقولة ميلان كونديرا، أن الرواية «إنجاز تاريخي من إنجازات أوروبا» لكن، وكما يبدو لنا أن ثمة اتفاقاً على أن الرواية ليست السرد نفسه أو كله، بل الرواية بنية أساسية في برج السرد العملاق. فنحن نتحرك اليوم في فضاء السرد وفي متاهاته أيضاً، قُرَّاءَ سردٍ، ومنتجين، ومستهلكين.
وبناء على هذا الإرث المتوارث والمتصل، نطالب بحق الشراكة. ومن هذا المنطلق، كان هذا المحور حول الرواية والسرد، الذي سأتحدث عنه في الفقرة الأخيرة من هذه الافتتاحية.
-3-
بالعودة إلى السرد، ماذا يعني السرد؟ ولماذا يطلق المفكرون الجدد مصطلح (السرد) على مجالات متنوعة من مجالات الحكايات بما فيها الحكايات والروايات؟ وما الزمن السردي الذي يكثر التحدث عنه فلسفياً في زمننا هذا؟
عند بول ريكور ـــ وهو أحد فلاسفة السرد والتأويل ـــ للزمن السردي معنيان، الأول: زمن التفاعل بين مختلف الشخصيات والظروف، والثاني: زمن جمهور القصة ومستمعيها. أو بعبارة أوضح؛ الزمن السردي يكون في النص وخارج النص، هو زمن الوجود. وعند ريكور، أيضاً، السرد مصدر للمعرفة بالذات وبالموضوع، بالوجود الفردي والوجود في العالم.
نستنتج من قراءة ريكور وغيره من منظِّري السرد، أن السرد ليس مرآةً للواقع فحسب، بل أكثر واقعية من الأشياء التي تمثل الواقعية، السرد تكثيف للواقع: «إذ يتضمن العمل الخيالي عالماً كاملاً معروضاً أمامنا، يكثف الواقع ويجمع ملامحه الجوهرية في بنية مركَّزة أو هو عمل تقوم الأخيلة والواقع الإنساني باشتراعها عالماً ممكناً يستطيع أن يتقاطع مع عالم القارئ ويحوله».
وفي موضع آخر في كتاب «الوجود والزمان والسرد» يقول: «تكمن أطروحتي هنا في أن عملية التأليف أو الصياغة لا تكتمل في النص وحده، بل لدى القارئ، وبهذا الشرط، إن إعادة صياغة الحياة في السرد أمرٌ ممكنٌ. ولي أن أقول ـــ بعبارة أدق ـــ إن معنى السرد أو دلالته تنبثق من التفاعل بين عالم النص وعالم القارئ، وهكذا يصير فعل القراءة اللحظة الحاسمة في التحليل بكامله، فعليها ترتكز قدرة السرد على صياغة تجربة القارئ».
وعند ريكور ليس النص بالشيء المغلق على نفسه، بل هو «مشروع كون جديد منفصل عن الكون الذي نعيش فيه». لكن ما المشترك بين القارئ والنص؟ إنه بناء الحبكة، وفعل القراءة هو الذي يكمل العمل الأدبي ويحوله إلى دليل للقراءة وإلى ثروة تأويلية، والقراءة هي طريقة للعيش في عالم العمل الخيالي، وبهذا المعنى الذي يجري فيه التصالح بين السرد والحياة، نخلص مع هؤلاء المفكرين ومع ريكور إلى القول: «إن القصص تُروى، ولكنها أيضاً تُعاش على نحو متخيل».
وحول مفهوم الزمن في السرد، لعل من المفيد أن نذكر ما يقتبسه ريكور عن القديس أوغسطين في كتابه «الاعترافات» حول الزمن، على أن الزمن عند القديس أوغسطين وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر، هي: التوقع الذي يسميه: «حاضر المستقبل» والتذكر، الذي يسميه: «حاضر الماضي» والانتباه الذي هو: «حاضر الحاضر».
في مقدمة كتاب الوجود والزمن والسرد كتب المترجم العراقي القدير سعيد الغانمي مقدمة المترجم، جاء فيها: «الفلسفة الأوروبية الأمريكية المعاصرة، قد غمرت نفسها في ظاهرة النص، وكأن كليَّة الأشياء الواقعية قد حذفت نفسها ووضعتها تحت استعارة أنموذج «المكتوب» الذي يرتبط بدوره بفاعلية محددة هي «القراءة».
-4-
يُصِرُّ بعض المتشائمين من العرب، فيما يخص السرد، على أن ثمة انقطاعاً عندنا بين الأمس واليوم عن خط السرد العام الذي اختطه الأسلاف الحضاريون المتعاقبون، كأن نهر السرد قد فقد مجراه في رمال ومنعرجات التاريخ، والأحداث الجسام التي أصابت العرب، وهذه بحدِّ ذاتها سردية! واليوم هل يستطيع السرديون العرب المعاصرون أن يستعيدوا هويتهم السردية؟ وهل تتشكل أو تشكلت هوية سردية عربية من خلال السرد الروائي؟
سنركز هنا على الرواية المعاصرة حصراً، والرواية «صورة وأنموذج إنسان الأزمنة الحديثة»، وفاتنا أن نذكر أن مقومات السرد التي تحدث عنها ريكور تتركز في: «الخيال، الزمان، الإمكان».
الرواية في أحد تعريفاتها: «نثر سردي تخييلي ذو طول معين» وتوجد تعريفات أخرى، ما نريد أن نؤكده هنا أن نماذج السرد متنوعة للغاية، وقد أحصى الناقد البريطاني ديفيد لودج في كتابه «الفن الروائي» بترجمة ماهر البطوطي، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أحصى ما يقارب ستةً وأربعين نمطاً سردياً مع أمثلة على كتابة كل نمط والروايات التي تمثله، منها: رواية البداية، رواية التطفل، رواية التشويق، السرد الشفاهي، رواية الرسائل، وجهة النظر، اللغز، الأسماء، تيار الوعي، المونولوج الداخلي، الإحساس بالمكان، النثر المنمق، التناص، الرواية الكوميدية، الواقعية السحرية، التصوير والتقرير، الإخبار بأصوات مختلفة، الرمزية، القصة المجازية، تخيل المستقبل، التجلي، المصادفة، الراوي غير الموثوق به، القصة داخل القصة…إلخ.
وليست هذه الأنماط من نماذج الرواية الأوروبية والأمريكية، إلا أن قسماً من الأنماط التي اعتمدها الروائيون العرب وتجاوبوا معها.
عندنا نحن العرب يمكن أن نجمل الرواية العربية بثلاثة أنماط كبرى مرتبطة بمراحل تاريخ الرواية العربية:
مرحلة الرواية التقليدية، مرحلة الرواية الحديثة، مرحلة الرواية المعاصرة أو مابعد الحداثة.
وكل نمط من هذه الأنماط له سمات تميزه، ويتفرع عنه أنواع وأنماط أخرى.
الرهان اليوم على الرواية الجديدة، التي تتميز وتتفارق عن الرواية الحديثة، فهي، بأنواعها المتعددة والمتشظية، أكثر حركية، ومواراً وتعبيراً مشحوناً عن الراهن وتناقضاته وفوضاه، وأكثر تفاعلاً مع المستجدات المتسارعة.
-5-
وفيما يخص المحور الذي أعلنا عنه على غلاف مجلة المعرفة منذ بداية العام الماضي تقريباً، بعنوان: السرد الروائي العربي في القرن الواحد والعشرين: الواقع والآفاق والمقترحات. نشكر الكتّاب الذين تجاوبوا معنا ونثمِّن عالياً إسهاماتهم، مع رغبة كنا نرجو أن تتحقق، وهي التطابق قدر الإمكان مع شكل ومحتوى المحور، ونأسف إن لم يتحقق ذلك. لكن، يمكن أن تنتظم كل هذه الموضوعات في الإطار العام لعنوان المحور. نأمل، دائماً الفائدة والمتعة المعرفية، للقراء وللمعنيّين بالرواية والسرد.
التاريخ: الثلاثاء 5-2-2019
رقم العدد : 16902