الملحق الثقافي..رشا سلوم:
مازال نجيب محفوظ يثير الأسئلة الكثيرة، حياً وميتاً. وقبل ذكرى وفاته التي مرت منذ عدة أيام، عاد النقاش حول الكثير من مواقفه في الحياة، والثقافة والفكر، بعضهم رآه محايداً، بل اتهمهوه بالجبان وعدم القدرة على اتخاذ أي موقف ما، نحو القضايا الكبرى. منة الله أبيض تناولت هذا النقاش الذي جرى في الصحافة المصرية وقالت:
كان يمكن أن تمر ندوة مناقشة كتاب «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة» للكاتب محمد شعير التي أقيمت في نادي ساويرس، مرور الكرام كأي ندوة أخرى، لولا كلمة قالتها الدكتورة سيزا قاسم، أستاذة الأدب بالجامعة الأمريكية، خارج النص وداخل السياق، حين وصفت الأديب نجيب محفوظ بأنه كان جبانًا كغيره من المثقفين المصريين، الأمر الذي اعتبره الكثيرون تطاولاً واتهاماً غير لائق في حق الأديب الكبير الذي يمتلك منجزاً أدبياً جريئاً في نقد الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي المصري داخل إطار الرمز وخارجه، وقد دفع ثمن ذلك كثيراً، هذا على مستوى الأدب، لكن على مستوى نجيب محفوظ الإنسان، برغم هدوئه ورزانته ولباقة حديثه ودبلوماسيته المعهودة لم يتوان أيضاً عن إبداء أرائه السياسية حين يُسأل، واتخاذ المواقف الحاسمة في وقتها. لكن السؤال الأبرز في حديث الدكتورة سيزا؛ هل المثقف الشجاع من وجهة نظرها يعنى الجعجعة الفارغة وقليل من الطحين؟ بالتأكيد لم يمتلك نجيب محفوظ حنجرة السياسيين وهواة الضجيج، لكن تاريخه مليء بالطحين..
فى حديثها لـ»الأهرام»، تستنكر أم كلثوم نجيب محفوظ، الابنة الكبرى للأديب هذا الاتهام الذي وصفته بالشنيع، إذ تقول «يبدو أن والدى كُتب عليه أن يُهاجم في حياته وبعد مماته، فاتهامه بالجبن ليست تهمة جديدة، فقد سبق وقد قالها آخرون عنه حتى في حياته ولم يتفوه بكلمة لإيمانه الشديد بفكره وسلاحه (القلم)، الذي عاش له وبه». وقيل إن والدها وقف في وجه المشير عبد الحكيم عامر وزوجته برلنتي عبد الحميد حين ادعت الأخيرة ملكية عمارة العجوزة (172 شارع النيل)، وشهد نجيب محفوظ كباقي سكان العمارة أمام المحكمة أن الفنانة الشهيرة لا تمتلك العمارة المذكورة وأن الأديب كان يسدد إيجار الشقة لمالك العمارة، ليدحض بذلك رواية برلنتي التي تقدمت بأوراق للمحكمة تفيد ملكيتها للعمارة.
في هذا الموقف لم يتخل نجيب محفوظ عن قول الحقيقة برغم حساسية الموقف وسلطوية الخصوم، فأية شجاعة يتحلى بها هذا الرجل ليقف أمام المشير عبد الحكيم عامر صديق الرئيس جمال عبد الناصر وزوجته الفنانة ذائعة الصيت والعلاقات أيضاً! لا تدافع أم كلثوم عن شجاعة والدها بقدر ما تذكر مواقف بسيطة لتاريخ مليء، إذ تشير إلى حديث والدها في مذكرات رجاء النقاش، وهى المذكرات التي تعتبرها الأصدق والأهم بين كل المذكرات نظراً لأنها كُتبت على مدار 18 شهراً سجل خلالها حوالي 50 ساعة، كما أنها كُتبت ونشرت حين كان نجيب محفوظ يتمتع بصحة جيدة آنذاك قبل تدهور حالته،
وفي عهد الرئيس محمد أنور السادات – تضيف أم كلثوم- وقع هو وتوفيق الحكيم وبعض الكتاب الآخرين بياناً يرفضون فيه «حالة اللاحرب واللاسلم»، وعلى إثر ذلك مُنع من الكتابة وقتها، ليدفع ضريبة مواقفه السياسية. وقالت ابنة الأديب «نجيب محفوظ شغلته الكلمة لا يملك إلا أن يناضل بالكلمة، غير مطلوب منه أنه يشارك في المظاهرات ويعتلي المنابر وينضم للأحزاب السياسية، إذاً فما هي وظيفة السياسي إن كان ذلك شغلة الأديب؟».
فبالكلمة قال نجيب محفوظ كل ما يريد، وفي حياته دفع ثمن مواقفه، إلا أن نجيب محفوظ لم يكن فظاً في حديثه وفي التعبير عن رأيه، ويعتبر أن العدوانية في التعبير عن الرأي من سوء الأدب، والأدب لا يعني أنه جبان، وهذا ما ربانا عليه. وتكشف أم كلثوم لـ»الأهرام»، لأول مرة أن حركة سياسية فلسطينية حاولت أن تدفع نجيب محفوظ ليرفض جائزة نوبل مقابل حصوله على قيمة الجائزة وذلك لإحراج الغرب حتى يقال إن أول أديب عربي يرفض أكبر جائزة مقدمة من الغرب، وأضافت «إن كان والدي جباناً، ألم يكن من الممكن أن يتخلى عن الجائزة ويتاجر بالقضية الفلسطينية ويصبح مناضلاً في نظرهم؟
لا، ليس الأمر كذلك، فقد آثر والدى أن يحصل عليها ليضع الأدب العربي في مصاف الأدب العالمي وألا يقطع الفرصة على أديب عربي آخر يمكن أن يحصل عليها، فلم يكن من محبى المواقف الجوفاء الكاذبة، فقد كان مثقفاً حقيقياً بمعنى الكلمة». وجددت أم كلثوم الحديث عن متحف نجيب محفوظ المقرر إنشاؤه بتكية محمد أبو الدهب بالقاهرة الفاطمية، وناشدت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم بسرعة الانتهاء من المتحف الذي طال انتظاره حتى ملّ الصبر، وقالت «أتمنى أن تستكمل الوزارة إنشاء المتحف وتضع مقتنيات والدي التي سلمتها للوزارة منذ سنوات قبل أن تأكلها الفئران وتصبح بلا قيمة».
يعيد محمد شعير في تقديمه قصص «همس النجوم» لنجيب محفوظ، ما كان أعلنه سابقاً، بأنه وجد هذه القصص «بعدما منحتني ابنته «أم كلثوم» صندوقاً صغيراً يتضمن أوراقاً تخص نجيب محفوظ»، عندما كان يعمل على إعداد كتابه «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة»، ويضيف: «شعرت بلذة كأنني على وشك اكتشاف مقبرة فرعونية». واكتشافها «أشبه بكنز أدبي».
ويذكر شعير أنه وجد ضمن الصندوق ملفاً يضم نحو 40 قصة قصيرة لم تنشر وقت كتابتها، وجاءت محاولة اغتيال محفوظ في تشرين الأول 1994، لتظل القصص حبيسة الملف.
ويستطرد شعير بأن محفوظ عاد إليها بعد سنوات لينشرها في مجلة «نصف الدنيا» التي كانت تعبر عن فرحتها بنشر تلك القصص تحت عنوان «اَخر ما كتبه صاحب نوبل».
يقول محمد شعير بأن ميزة قصص «همس النجوم» التي تضم 18 قصة قصيرة، نشرت في مجلات مختلفة، ولم تنشر من قبل في أعمال نجيب محفوظ الكاملة التي تحوي 44 رواية وأكثر من 350 قصة. باستثاء قصة «السهم» التي نشرتها «هيئة الكتاب المصرية» ضمن «مختارات قصصية» عام 1996، وقصة وحيدة لم تنشر على الإطلاق هي «نبقة في الحصن القديم».
يرى شعير بأن مجموعة «همس النجوم»: محملة بالرمز وحكمة الشيخ الكبير. ولا تختلف عن عوالم نجيب محفوظ الإبداعية.
تتمحور «هذه القصص في «الحارة»، عالم نجيب محفوظ الأثير التي أبدع نجيب محفوظ في تحديد حكام جغرافيتها الإجتماعية ورسم حدودها التي تنتهي بالقبو «حيث يعيش من لا مأوى لهم»: فتوات، مجاذيب، منجمون، موسوسون، أولياء، أصحاب كرامات، هاربون، أئمة زوايا، وشيوخ يراقبون ويتدخلون في شؤون الحارة وحياة أهلها كأي عالم، وجوه وأقنعة تخفي الكثير. ويرتفع فوق القبو «الحصن القديم» حيث تسكن الأشباح والعفاريت.
ففي قصة «ابن الحارة» يتحدث محفوظ عن الصدام والقتل والحرب في الحارة، فأهل القبو من الفقراء والمظلومين انضموا إلى ابن الحارة يساندونه ضد المعلم زاوي، أو كما جاء في سرد محفوظ نفسه بأنها «كانت ليلة سوداء كما وصفها إمام الزاوية».
ويستأنف شعير حديثه عن «الحارة» المصرية عند محفوظ بقوله: «في الحارة ثمة هاربون من ثأر أو تقاليد قديمة، وأحياناً من أجل الحب او العمل، وهناك عائدون بعد ثراء أو بعد حكمة وكشف». كما يعود «شيخون» في قصته محملاً بالكرامات والحكمة ومعرفة الغيب بعد غياب، فعند محفوظ «يتبادل دائماً أصحاب النبوءات والأقوال الملتبسة بطولات القصص في «الحارة» المصرية».
يُكتب لمحفوظ أنه مؤسس الرواية العربية كما كان يوسف إدريس مؤسساً للقصة العربية، حيث وصفته لجنة «جائزة نوبل» حينذاك بأنه «كاتب استطاع تكوين قصة عربية من الممكن تطبيقها على جميع البشر».
بإصدار «همس النجوم» يشحذ محمد شعير ذاكراتنا من جديد بقصص محفوظ عن «الحارة» المصرية التي أبدع في وصفها، كما أبدع حسن فتحي في هندسة «العمارة المصرية»، ويبقى رهانه على»قلة ممن ظلت ثيابهم بيضاء، يتبادلون الهمس والشد على الأيادي في الظلام، ويتطلعون بعزم وصبر نافذ إلى طلوع الفجر.
لقد نجح محمد شعير بعد نشر كتابه «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة»، مرة أخرى مع إعداده قصص «همس النجوم» للنشر، ضمن ما يسمى «تاريخ الأدب»، في إعادة الاعتبار لمهنة «المحرر الثقافي» و»البحث أو التحقيق الاستقصائي الثقافي» اللذان تم إهمالهما كثيراً.
التاريخ: الثلاثاء 5-2-2019
رقم العدد : 16902