أعدم سقراط لأنه حمل أفكاراً تدعو للعدالة وحق الشباب في حياة أفضل وكذلك فعلها الإنكليز مع المصلح الاجتماعي توماس مور الذي حلم بمدينة فاضلة شأنه شأن الفيلسوف اليوناني أفلاطون، حيث ركز كل منهما على تلك الفكرة الفلسفية وشاركهما الرؤية ذاتها الطبيب والفيلسوف المسلم الفارابي معايرة في مواصفات وأخلاقيات حاكم المدينة من ثقافة وفلسفة وعدالة وحكمة ورأوا فيها العوامل التي تؤهل الشخص ليتولى منصباً فيه خدمة للناس، ووفق أفلاطون لا يجب أن تتساوى الأصوات عند انتخاب الحاكم فالأرجحية في ذلك هي لأصحاب العلم والمعرفة والقدرة على تحقيق العدالة بين البشر حيث يعيش كل إنسان في المدينة الفاضلة حسب إمكاناته وخصائصه الذاتية وقدراته ودوره الوظيفي فقد حلم بمدينة عقلاء تنصب سقراط ملكاً عليها ولا تقوم بقتله كما فعل حاكم أثينا عقاباً له بوصفه صاحب عقل راجح ودراية وحلم وساع لتحقيق العدالة.
إن الفكرة الأساسية عند الفيلسوف اليوناني أفلاطون هي فكرة العدالة ومركزيتها في منظومة الحكم وإقامة مجتمع الفضيلة والرخاء قاعدته العلم والمعرفة فوفقهما تتحقق الحرية الحقيقية التي تؤدي إلى السعادة وعلى هذه القاعدة أقام أول أكاديمية في التاريخ وكتب على بوابتها لا يدخل هذه الأكاديمية إلا الرياضيون والمقصود بالرياضيين هنا أصحاب العلم والمعرف أي أنها بنك ومجمع العقول ما يعني أن المجتمع الذي يسعى إليه أفلاطون هو مجتمع العلم والمعرفة حيث السيادة فيه للعقل والعاقل وحده شرط أن يكون عادلاً لأن العدالة هي الطريق للحياة السعيدة وفق معلمه وأستاذه سقراط.
وإذا كان التساؤل عند أفلاطون إيهما أفضل أن نكون صالحين أم أقوياء فلا شك أنه ينحاز إلى معطى القوة ولكنها القوة العاقلة وليست الهوجاء ففي مدينته الفاضلة أو العاقلة ينقسم أفرادها حسب وظائفهم وإمكاناتهم كما أعضاء الإنسان ووظائفه فالعمال والفلاحون وأصحاب الحرف هم كالبطن التي تؤمن التغذية للجسم والقلب وهو الجيش الذي ينبض حباً وعشقاً وقوة وشجاعة في الدفاع عن الوطن والعقل وهو يمثل الحكمة وضبط الشهوات ورجاحة القرار والبحث عن السعادة وطريقها المعرفة والبحث والاكتشاف ومقتضى العدالة هنا يكمن في توزيع الأدوار والوظائف وفق الإمكانية ليعيش مجتمع المدينة الفاضلة حالة من الانسجام وتكامل الأدوار بحيث يؤدي كل شخص دوره المطلوب بالتكامل مع أقرأنه من أفراد الشعب.
إن اللافت في المدينة الفاضلة هو ذلك التنظيم الدقيق للمجتمع والقدرة على استثمار الطاقات المتوفرة والمتاحة فيه والاستفادة القصوى من القدرات العقلية والجسمية مع أرجحيه للطاقة العقلية في قيادة المجتمع وإدارة المدينة والمدينة هنا هي الدولة ببنيتها الاجتماعية والطبقية ومواردها المادية والبشرية وجغرافيتها السياسية ككيان قانوني مع الإشارة إلى التمييز الحاصل بين المواطنين أي الإغريق الذين يتكلمون اللغة اليونانية والبرابرة وهم سكان المدينة من غير الناطقين بها وهم غالباً جموع الأسرى والعبيد والخدم.
لقد استطاع الفلاسفة اليونانيون بدءاً من سقراط ومروراً بتلميذه أفلاطون وتلميذ أفلاطون أرسطو رسم ملامح حياة مدنية ودولة ديمقراطية نواتها العقل والحكمة والعدالة والمواطنة وفق مفاهيم عصور ما قبل الميلاد وتحديداً القرن الرابع ق.م وهم يكونوا بذلك قد سبقوا فلاسفة القرن الثامن عشر الميلادي وعلى رأسهم الفرنسيان جان جاك روسو ومونتيسكيو وإذا كان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي قد أكد على فكرة ومبدأ السيادة الشعبية وأن الشعب هو مصدر السلطة والشرعية داحضاً نظرية التفويض الإلهي لمواجهة سلطة الحاكم الفرد فإن أفلاطون قد سبقه في مقاربة الفكرة مع الاختلاف في مفهوم من يحق له من الشعب حق التصويت واختيار الحاكم وعدم المساواة بين النخب والرعاع وفق مفاهيم ذلك العصر وثقافته السائدة علما أن المدينة الفاضلة كان لها برلمانها ومجلس شيوخها وحكمها الرشيد مضافاً إليه فلسفة حياة.
إن مقاربة موضوعية في تحديد مضمون فكرة الديمقراطية بوصفها آلية تعبير عن إرادة أكثرية شعبية في اختيار الحاكم تجعلنا نتوقف عند محتوى بثلاثة مضامين هي فائض القوة العقلية عند أفلاطون في مدينته الفاضلة وفائض قوة اجتماعية عند جان جاك روسو، ونظرية العقد الاجتماعي وفائض قوة المال في وقتنا الحاضر، بغض النظر عن الشكل الذي تتمظهر في العملية الديمقراطية وصناديق الاقتراع والآليات التي تتم فيها مخرجات تلك الدمقرطة وإذا أخذنا في الاعتبار نفوذ وسطوة المال في الأنظمة الرأسمالية وطريقة تكديسه عبر الاستثمار في العقل المنتج وطريقة رسملة ذلك من خلال التأثير في العملية الديمقراطية نكون قد وصلنا إلى نتيجة ونقطة مركزية تشكل إعادة إنتاج لفكرة أفلاطون في المدينة الفاصلة مع فارق في المنتج بحيث يحل رجل الأعمال في العصر الحاضر حاكماً- ترامب وكاميرون – أنموذجاً بدل الحكيم والفيلسوف في المدينة الفاضلة العاقلة.
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 4-3-2019
رقم العدد : 16923