الملحق الثقافي.. د. محمود شاهين:
من المعارض الهامة التي شهدها المتحف الوطني بدمشق خلال العقد الماضي، معرض حمل عنوان (بين الكتابة والصورة/ نماذج من المخطوطات والأيقونات في سوريّة) نُظّم بالتعاون بين الأمانة العامة لاحتفاليّة دمشق عاصمة الثقافة العربية، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية، ومكتبة الأسد الوطنية في دمشق. ضم المعرض منتخبات من مخطوطات المتحف الوطني، ومكتبة الأسد، ومتحف دير صيدنايا، وبطركيّة السريان الأرثوذكس، بلغ عددها ثلاث وعشرون مخطوطاً، وعدداً من الأيقونات المستعارة من أديرة وكنائس منطقة دمشق، بلغ عددها ثلاثون أيقونة.وثَقّ لها دليل متقن الإخراج والطباعة، قدم له الفنان التشكيلي والباحث في تاريخ وفنون الأيقونات (الياس الزيات) مؤكداً على تلاقي وإبداع الحضارتين الإسلاميّة والمسيحية، لاسيّما في مجال فنون الكتابة والصورة، أي المخطوطات التي تعود إلى الفترة العباسيّة والمملوكية والعثمانية، بينما الأيقونات حديثة نسبياً، وهو ما رآه الفنان زيات، إحدى إشكالات المعرض التي حاول المشرفون عليه حلها بالعودة إلى المخطوطات المسيحيّة السريانيّة التي يعود بعضها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، والآخر إلى الثامن عشر.
تنوعت المخطوطات التي ضمها المعرض فشملت الكتب الدينيّة الإسلاميّة، كالمصاحف الشريفة، وكتب السيرة والأدعية وعلم الميقات والفلسفة والتداوي واللغة، وتم اختيارها (كما يقول الفنان الزيات) بهدف التأكيد على جمال فنها الذي جمع بين النص والزخرفة، ويتمثل ذلك بالخطوط العربية الأصيلة، واستهلال الفصول المؤطرة بزخارف هندسية إسلامية ملونة ومذهبة، لها خلفية تصوفيّه مجردة، تبحث عن المطلق في علوم العدد والفلك، كما ضم المعرض مجموعة من المخطوطات الدينيّة المسيحيّة لها أغراض مشابهة.
وتحت عنوان (المخطوطات إرثاً ثقافياً) أشار الدكتور علي العائدي المدير العام السابق لمكتبة الأسد الوطنية، إلى تملك الأمة العربية والإسلاميّة إرثاً جد عظيم من المخطوطات التي باتت تُشكل علماً قائماً بذاته، يُعنى بدراسة كل ما يتعلق بالمخطوطات من كتابة وصناعة وترميم وما إلى ذلك، ويعنى في العصر الحديث، دراسة المخطوطات كقطعة مادية، مع العناية بكل ما يحيط بالمتن من حواشٍ وتعليقات، ووقفات، واستطرادات، وتملكات، وإجازات، وما ماثل ذلك، ويطلق عليه اليوم في الغرب (الكوديكولوجيا) وهو مصطلح حديث من وضع العالم (الفيولوجي) الفرنسي (ألفونس دان).
أما السيدة (منى المؤذن) فأكدت أن العالم لم يشهد أمةً تملك عدداً من المخطوطات تبحث في مختلف المجالات كالأمة الإسلاميّة، إذ لديها مخطوطات في الدين واللغة والطب والكيمياء والهندسة وعلم الهيئة (علم الفلك) وعلم العدد (علم الرياضيات) وعلم السياسة وغيرها. وكان الكتّاب والعلماء من أرقى طبقات المجتمع، واحتلوا أرفع المناصب، حتى أن أبو علي محمد بن مقلة، عين وزير المقتدر والقاهر في القرن العاشر الميلادي.
والحقيقة فقد تحولت المخطوطات الإسلاميّة (لاسيّما المصحف الشريف) إلى ميدان هام ورئيس من ميادين الفنون، حيث تبارى الخطاطون والمزخرفون، في كتابتها وتزيينها، وزخرفتها، لتتحول إلى قيمة دلاليّة وقيمة فنيّة رفيعة، تماماً كالأيقونة، (الجزء المكمل للمعرض) التي كانت ولا تزال، ميداناً هاماً من ميادين التأمل، والورع، والاتصال بالخالق، ورمزاً من رموز الإيمان.
والأيقونة التي تعني اللوحة أو الصورة المنفذة في الغالب على الخشب، والتي تتناول موضوعات دينية مقدسة، لها أصولها التي تنحدر منها، ومن الواجب المحافظة عليها، كما أن للمشتغلين في تنفيذها أو نسخها، مواصفات خاصة من التقى والورع والإيمان، وهم في العادة مجهولون، أو هكذا يجب أن يكونوا. فالأيقونة في الأساس هي نوع من الصلاة، أو القربان الذي يتقدم به صاحبه إلى الخالق، بغية مرضاته، والعفو عنه، أو شفائه من مرض ألم به، وهذا ما يُفسر غياب أسماء وتواقيع مصوري الأيقونات عنها، وبالتالي بقاء معظمها مجهولاً.
لقد سبق وأقيم معرضان هامان للأيقونة السوريّة. الأول في صالة المعارض بمكتبة الأسد الوطنيّة في دمشق ما بين 20 و30 تشرين الأول عام 1987 رافقته ندوة استمرت ثلاثة أيام، شارك فيها مجموعة من الباحثين والمهتمين واللاهوتيين السوريين والأجانب.
والمعرض الثاني أقيم في صالتي المتحف الوطني بدمشق وحلب ما بين 23 كانون الأول عام 1999 و4 أيار عام 2000.
كغيرها من الأيقونات العالمية، تتحدث الأيقونة السورية عن موضوعات وقضايا وأمور دينيّة مقدسة، منها ما يتعلق بالسيد المسيح والسيدة العذراء، ومنها ما يتحدث عن القديسين والملائكة وقصص الكتاب المقدس المختلفة. والأيقونة السوريّة عموماً، تلتقي في الموضوعات وتختلف في طريقة تناولها والتعبير عنها. أي في الصياغة والأسلوب. كما تلتقي الأيقونة بجملة من القواسم المشتركة مع المخطوطات والرسوم الشعبيّة والمنمنمات الإسلاميّة.
واللافت في فن الأيقونة، تشابه وضعيات الأشخاص، وحركة الوجوه، وتعابيرها، واعتمادها تقنية واحدة. ففيها من الرسم (الخط) أكثر ما فيها من اللون، وللألوان المستخدمة في الأيقونة رموزها الخاصة، كالأحمر، والأزرق، والذهبي، وهذا الأخير لا يغيب لا عن الأيقونة ولا عن المخطوطات الإسلاميّة.
وللأيقونة السوريّة هويتها المحلية الخاصة، حيث ظهرت فيها الكتابات العربيّة إلى جانب اليونانية، وتذكر ملامح شخصياتها وثيابها بمثيلاتها في الحياة والواقع، وعلى هذا الصعيد، يؤكد الفنان (الياس الزيات) أن الأديرة والكنائس في سوريّة، تزخر هذه الأيام بعدد وافر من الأيقونات، معظمها مُصوّر بأيدي فنانين يحملون أسماء عربيّة، عاشوا في سورية في القرون الثلاثة الماضية، وكانوا من رعايا البطريركيّة الأنطاكيّة أو بطريركيّة القدس. ويرى أن فن الأيقونة السوري، تأثر في بداياته بأسلوب النحت التدمري وبأسلوب صور (الفيوم) في مصر، وبدأ هذا الفن بالتدريج، يتبادل التأثيرات مع الفن الإسلامي في سوريّة. وهكذا بدأ الفن المسيحي والفن الإسلامي يتعايشان بانسجام ومحبة وتبادل معرفي وتقاني واضح.
ويسوق الفنان الزيات على التأثيرات المتبادلة بين الفن المسيحي والفن الإسلامي ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: احتواء متاحف سوريّة على أوانٍ كنسية من المعدن أو الفخار مزينة برموز ورسوم أيقونيّة، يعود بعضها إلى الحقبة ما بين القرن السابع والقرن العاشر الميلاديين، صنعها حرفيون سوريون في زمن العهدين العربيين الأموي والعباسي، استمراراً لتقاليد فنيّة في البلاد.
المثال الثاني: استعمل يوسف المصوّر الحلبي وابنه نعمت الله، في تزيين عناوين الفصول، في مخطوطاتهما المسيحيّة، زخارف مشابهة لزخارف وعناوين الفصول في المخطوطات الإسلاميّة المستخدمة في زمانهما. أي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.
المثال الثالث: نجد في دير (مار موسى الحبشي) قرب مدينة (النبك) كتابات تذكاريّة مسيحيّة باللغة العربيّة، تؤرخ لتجديد بناء الدير في القرن الثاني عشر الميلادي، وتبدأ هذه الكتابات بالبسملة، وهي ـ كما نعلم ـ فاتحة النصوص الإسلاميّة ودلالة البركة.
هذه الأمثلة وغيرها، تؤكد على مدى التعايش والانسجام الذي نهض بين الفن المسيحي والفن الإسلامي في سورية، وقبل هذا وذاك، التعايش والانسجام والمحبة والألفة التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد، والأرض الواحدة، والآمال والتطلعات الواحدة، لدى المسيحيين والمسلمين معاً.
وهكذا يدلل هذا الشعب العظيم، على وعيه الإنساني والحضاري، وبالتالي على وعيه الوطني والقومي الذي جعله محط إعجاب الشعوب والأمم التي حل بينها ضيفاً ومقيماً، وستبقى سورية تعيش هذه اللحمة الوطنيّة، مدافعة بها ومن خلالها عن وجودها وأرضها ومستقبل أبنائها، هؤلاء الذين كانوا وسوف يبقوا، في مقدمة صناع الحضارة الإنسانيّة وروادها.
هذه الحالة الحضاريّة الإنسانيّة السوريّة الرفيعة، انتقلت من الناس إلى فنونهم وثقافتهم بعامة، وهو نتيجة طبيعية للحالة الأولى، وشاهد أكيد عليها. ولأن السوري مسكون بروح المغامرة والعطاء والتشاركيّة، وأهدى العالم أول أبجدية في التاريخ (هي أبجدية رأس شمرا) أعلن (شارل فيرونو) وغيره من العلماء والباحثين العالميين المنصفين، أن لكل إنسان في العالم وطنان: الوطن الذي ينتمي إليه، وسوريّة التي كان أبناؤها في مركز الفعل الحضاري الإنساني. قدموا علومهم وثقافتهم وفكرهم وخبراتهم وصناعاتهم لشعوب العالم كافة. فالصناع والفنانون السوريون (كما يقول الدكتور فيليب حتي) أدخلوا فنون الفسيفساء إلى روما، إضافة إلى صناعات وفنون أخرى كثيرة، كما قدمت سوريّة أكثر من إمبراطور وقائد ومهندس وفنان وعالم وأديب وفيلسوف وشاعر، للحضارتين: اليونانيّة والرومانيّة، وفعلت هذا في أكثر من مرحلة تاريخيّة، ولأكثر من أمة، ولا زال هذا الفعل مستمراً حتى يومنا الحالي.
هذا الدور السوري المشرق والبهي والهام، في صناعة الحضارة الإنسانيّة الرفيعة والنبيلة، ما كان ليتم لولا تكاتف اليد المسيحيّة واليد المسلمة، في مسيرة البناء الحضاري فوق أرضها، ولولا روح المحبة والتسامح والعيش المشترك، التي صبغت أطياف هذا الشعب الذكي والمهذب والمجتهد، وصبغت فكره وفنونه وثقافته، وهو ما جعل ثمة علاقات كثيرة تجمع بين فن (الأيقونة) المسيحي وفن (المخطوطات والمنمنمات) الإسلامي، و(الرسوم الشعبيّة) العربيّة، وكل هذه الفنون، وضعت في خدمة الإيمان، والقيم النبيلة، والرموز المقدسة، والأبطال أصحاب الخوارق، حماة الحق والخير والجمال، والوحدة هذه، طاولت مضامين هذه الفنون، كما طاولت أدوات تعبيرها، وعناصرها ووضعيات شخوصها، والتكوينات التي انضوت فيها مفردات المخطوط والأيقونة والرسمة إضافة إلى وحدة الألوان وأنواعها وما تحمل من مفاهيم ورموز ودلالات.
وثَقّ لها دليل متقن الإخراج والطباعة، قدم له الفنان التشكيلي والباحث في تاريخ وفنون الأيقونات (الياس الزيات) مؤكداً على تلاقي وإبداع الحضارتين الإسلاميّة والمسيحية، لاسيّما في مجال فنون الكتابة والصورة، أي المخطوطات التي تعود إلى الفترة العباسيّة والمملوكية والعثمانية، بينما الأيقونات حديثة نسبياً، وهو ما رآه الفنان زيات، إحدى إشكالات المعرض التي حاول المشرفون عليه حلها بالعودة إلى المخطوطات المسيحيّة السريانيّة التي يعود بعضها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، والآخر إلى الثامن عشر.
تنوعت المخطوطات التي ضمها المعرض فشملت الكتب الدينيّة الإسلاميّة، كالمصاحف الشريفة، وكتب السيرة والأدعية وعلم الميقات والفلسفة والتداوي واللغة، وتم اختيارها (كما يقول الفنان الزيات) بهدف التأكيد على جمال فنها الذي جمع بين النص والزخرفة، ويتمثل ذلك بالخطوط العربية الأصيلة، واستهلال الفصول المؤطرة بزخارف هندسية إسلامية ملونة ومذهبة، لها خلفية تصوفيّه مجردة، تبحث عن المطلق في علوم العدد والفلك، كما ضم المعرض مجموعة من المخطوطات الدينيّة المسيحيّة لها أغراض مشابهة.
وتحت عنوان (المخطوطات إرثاً ثقافياً) أشار الدكتور علي العائدي المدير العام السابق لمكتبة الأسد الوطنية، إلى تملك الأمة العربية والإسلاميّة إرثاً جد عظيم من المخطوطات التي باتت تُشكل علماً قائماً بذاته، يُعنى بدراسة كل ما يتعلق بالمخطوطات من كتابة وصناعة وترميم وما إلى ذلك، ويعنى في العصر الحديث، دراسة المخطوطات كقطعة مادية، مع العناية بكل ما يحيط بالمتن من حواشٍ وتعليقات، ووقفات، واستطرادات، وتملكات، وإجازات، وما ماثل ذلك، ويطلق عليه اليوم في الغرب (الكوديكولوجيا) وهو مصطلح حديث من وضع العالم (الفيولوجي) الفرنسي (ألفونس دان).
أما السيدة (منى المؤذن) فأكدت أن العالم لم يشهد أمةً تملك عدداً من المخطوطات تبحث في مختلف المجالات كالأمة الإسلاميّة، إذ لديها مخطوطات في الدين واللغة والطب والكيمياء والهندسة وعلم الهيئة (علم الفلك) وعلم العدد (علم الرياضيات) وعلم السياسة وغيرها. وكان الكتّاب والعلماء من أرقى طبقات المجتمع، واحتلوا أرفع المناصب، حتى أن أبو علي محمد بن مقلة، عين وزير المقتدر والقاهر في القرن العاشر الميلادي.
والحقيقة فقد تحولت المخطوطات الإسلاميّة (لاسيّما المصحف الشريف) إلى ميدان هام ورئيس من ميادين الفنون، حيث تبارى الخطاطون والمزخرفون، في كتابتها وتزيينها، وزخرفتها، لتتحول إلى قيمة دلاليّة وقيمة فنيّة رفيعة، تماماً كالأيقونة، (الجزء المكمل للمعرض) التي كانت ولا تزال، ميداناً هاماً من ميادين التأمل، والورع، والاتصال بالخالق، ورمزاً من رموز الإيمان.
والأيقونة التي تعني اللوحة أو الصورة المنفذة في الغالب على الخشب، والتي تتناول موضوعات دينية مقدسة، لها أصولها التي تنحدر منها، ومن الواجب المحافظة عليها، كما أن للمشتغلين في تنفيذها أو نسخها، مواصفات خاصة من التقى والورع والإيمان، وهم في العادة مجهولون، أو هكذا يجب أن يكونوا. فالأيقونة في الأساس هي نوع من الصلاة، أو القربان الذي يتقدم به صاحبه إلى الخالق، بغية مرضاته، والعفو عنه، أو شفائه من مرض ألم به، وهذا ما يُفسر غياب أسماء وتواقيع مصوري الأيقونات عنها، وبالتالي بقاء معظمها مجهولاً.
لقد سبق وأقيم معرضان هامان للأيقونة السوريّة. الأول في صالة المعارض بمكتبة الأسد الوطنيّة في دمشق ما بين 20 و30 تشرين الأول عام 1987 رافقته ندوة استمرت ثلاثة أيام، شارك فيها مجموعة من الباحثين والمهتمين واللاهوتيين السوريين والأجانب.
والمعرض الثاني أقيم في صالتي المتحف الوطني بدمشق وحلب ما بين 23 كانون الأول عام 1999 و4 أيار عام 2000.
كغيرها من الأيقونات العالمية، تتحدث الأيقونة السورية عن موضوعات وقضايا وأمور دينيّة مقدسة، منها ما يتعلق بالسيد المسيح والسيدة العذراء، ومنها ما يتحدث عن القديسين والملائكة وقصص الكتاب المقدس المختلفة. والأيقونة السوريّة عموماً، تلتقي في الموضوعات وتختلف في طريقة تناولها والتعبير عنها. أي في الصياغة والأسلوب. كما تلتقي الأيقونة بجملة من القواسم المشتركة مع المخطوطات والرسوم الشعبيّة والمنمنمات الإسلاميّة.
واللافت في فن الأيقونة، تشابه وضعيات الأشخاص، وحركة الوجوه، وتعابيرها، واعتمادها تقنية واحدة. ففيها من الرسم (الخط) أكثر ما فيها من اللون، وللألوان المستخدمة في الأيقونة رموزها الخاصة، كالأحمر، والأزرق، والذهبي، وهذا الأخير لا يغيب لا عن الأيقونة ولا عن المخطوطات الإسلاميّة.
وللأيقونة السوريّة هويتها المحلية الخاصة، حيث ظهرت فيها الكتابات العربيّة إلى جانب اليونانية، وتذكر ملامح شخصياتها وثيابها بمثيلاتها في الحياة والواقع، وعلى هذا الصعيد، يؤكد الفنان (الياس الزيات) أن الأديرة والكنائس في سوريّة، تزخر هذه الأيام بعدد وافر من الأيقونات، معظمها مُصوّر بأيدي فنانين يحملون أسماء عربيّة، عاشوا في سورية في القرون الثلاثة الماضية، وكانوا من رعايا البطريركيّة الأنطاكيّة أو بطريركيّة القدس. ويرى أن فن الأيقونة السوري، تأثر في بداياته بأسلوب النحت التدمري وبأسلوب صور (الفيوم) في مصر، وبدأ هذا الفن بالتدريج، يتبادل التأثيرات مع الفن الإسلامي في سوريّة. وهكذا بدأ الفن المسيحي والفن الإسلامي يتعايشان بانسجام ومحبة وتبادل معرفي وتقاني واضح.
ويسوق الفنان الزيات على التأثيرات المتبادلة بين الفن المسيحي والفن الإسلامي ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: احتواء متاحف سوريّة على أوانٍ كنسية من المعدن أو الفخار مزينة برموز ورسوم أيقونيّة، يعود بعضها إلى الحقبة ما بين القرن السابع والقرن العاشر الميلاديين، صنعها حرفيون سوريون في زمن العهدين العربيين الأموي والعباسي، استمراراً لتقاليد فنيّة في البلاد.
المثال الثاني: استعمل يوسف المصوّر الحلبي وابنه نعمت الله، في تزيين عناوين الفصول، في مخطوطاتهما المسيحيّة، زخارف مشابهة لزخارف وعناوين الفصول في المخطوطات الإسلاميّة المستخدمة في زمانهما. أي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.
المثال الثالث: نجد في دير (مار موسى الحبشي) قرب مدينة (النبك) كتابات تذكاريّة مسيحيّة باللغة العربيّة، تؤرخ لتجديد بناء الدير في القرن الثاني عشر الميلادي، وتبدأ هذه الكتابات بالبسملة، وهي ـ كما نعلم ـ فاتحة النصوص الإسلاميّة ودلالة البركة.
هذه الأمثلة وغيرها، تؤكد على مدى التعايش والانسجام الذي نهض بين الفن المسيحي والفن الإسلامي في سورية، وقبل هذا وذاك، التعايش والانسجام والمحبة والألفة التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد، والأرض الواحدة، والآمال والتطلعات الواحدة، لدى المسيحيين والمسلمين معاً.
وهكذا يدلل هذا الشعب العظيم، على وعيه الإنساني والحضاري، وبالتالي على وعيه الوطني والقومي الذي جعله محط إعجاب الشعوب والأمم التي حل بينها ضيفاً ومقيماً، وستبقى سورية تعيش هذه اللحمة الوطنيّة، مدافعة بها ومن خلالها عن وجودها وأرضها ومستقبل أبنائها، هؤلاء الذين كانوا وسوف يبقوا، في مقدمة صناع الحضارة الإنسانيّة وروادها.
هذه الحالة الحضاريّة الإنسانيّة السوريّة الرفيعة، انتقلت من الناس إلى فنونهم وثقافتهم بعامة، وهو نتيجة طبيعية للحالة الأولى، وشاهد أكيد عليها. ولأن السوري مسكون بروح المغامرة والعطاء والتشاركيّة، وأهدى العالم أول أبجدية في التاريخ (هي أبجدية رأس شمرا) أعلن (شارل فيرونو) وغيره من العلماء والباحثين العالميين المنصفين، أن لكل إنسان في العالم وطنان: الوطن الذي ينتمي إليه، وسوريّة التي كان أبناؤها في مركز الفعل الحضاري الإنساني. قدموا علومهم وثقافتهم وفكرهم وخبراتهم وصناعاتهم لشعوب العالم كافة. فالصناع والفنانون السوريون (كما يقول الدكتور فيليب حتي) أدخلوا فنون الفسيفساء إلى روما، إضافة إلى صناعات وفنون أخرى كثيرة، كما قدمت سوريّة أكثر من إمبراطور وقائد ومهندس وفنان وعالم وأديب وفيلسوف وشاعر، للحضارتين: اليونانيّة والرومانيّة، وفعلت هذا في أكثر من مرحلة تاريخيّة، ولأكثر من أمة، ولا زال هذا الفعل مستمراً حتى يومنا الحالي.
هذا الدور السوري المشرق والبهي والهام، في صناعة الحضارة الإنسانيّة الرفيعة والنبيلة، ما كان ليتم لولا تكاتف اليد المسيحيّة واليد المسلمة، في مسيرة البناء الحضاري فوق أرضها، ولولا روح المحبة والتسامح والعيش المشترك، التي صبغت أطياف هذا الشعب الذكي والمهذب والمجتهد، وصبغت فكره وفنونه وثقافته، وهو ما جعل ثمة علاقات كثيرة تجمع بين فن (الأيقونة) المسيحي وفن (المخطوطات والمنمنمات) الإسلامي، و(الرسوم الشعبيّة) العربيّة، وكل هذه الفنون، وضعت في خدمة الإيمان، والقيم النبيلة، والرموز المقدسة، والأبطال أصحاب الخوارق، حماة الحق والخير والجمال، والوحدة هذه، طاولت مضامين هذه الفنون، كما طاولت أدوات تعبيرها، وعناصرها ووضعيات شخوصها، والتكوينات التي انضوت فيها مفردات المخطوط والأيقونة والرسمة إضافة إلى وحدة الألوان وأنواعها وما تحمل من مفاهيم ورموز ودلالات.
التاريخ: الثلاثاء 5-3-2019
رقم العدد : 16924