«إذا وجدت نفسي محكوماً بأن أكون مثقفاً فرنسياً للنصف الثاني من القرن العشرين فسأقفز فوق ظهر بغلة وأذهب بسرعة إلى لهاسا»..
ويعود الروائي البريطاني لورانس داريل، بعد أن وصفَ محاورُه عبارتَه السابقة بالوقحة في كتاب «عوالم روائية- خفايا الكتابة الروائية»، ليكمل- أي داريل- قائلاً: (المثقفون والسياسيون يتشدقون بينما الحقيقة أننا لسنا متطورين كفاية لمواجهة الكوارث التي تحدث أمام أعيننا)..
ثمة نبرة عدم رضا، نبرة فيها شيء من استنكار مواقف لربما اتخذها كل من المثقفين والسياسيين.. الذين يساوي بينهم داريل.
المفارقة تكمن بكون بعضٍ من الكتّاب على مختلف تصانيف كتاباتهم، لا يتوانون عن إظهار آرائهم الصريحة ممن هو مثقف..
أليس هؤلاء بنظر كثيرين، مثقفين هم الآخرين..؟
هل هناك شيء من ازدواجية غير مدركة من قبل من يصوغ هكذا آراء ومواقفاً..؟
لمّحت إلى ذلك كلير بارنت، محاورة الفيلسوف جيل دولوز في كتاب «ألف باء»، حين طلبت منه توضيح كونه يصف نفسه بأنه ليس واسع الثقافة مع أن ثمة جهداً يبذله في ممارسة ثقافية ممنهجة عندما يذهب ليشاهد فيلماً أو معرضاً فنياً..
كيف لنا أن ننتشل تعريفاً للمثقف حين يبتعد أمثال لورانس داريل، وجيل دولوز، وينأون بأنفسهم عن وصفها بـ(المثقف)..؟
ومهما اختلف تعريف المثقف.. واُختلف على ماهية وظيفته في محيطه.. لا بد أن يكون له واجب وتأثيرٌ ضمن دائرة وجوده.. مهما ضاقت حدود هذا التأثير أو اتسعت.. ما يعني أن دوره لا يقتصر فقط على نشاط فكري-ذهني.. بل يتعدّاه إلى نشاط فعلي اجتماعي.
هل نكون بذلك كلاسيكيين في نظرتنا إلى من هو مثقف..؟
لاسيما في وقت نشهد فيه انحسار دور المثقف..
للدقة.. هل ثمة انحسار أم إقصاء..؟!
بعيداً عن شرك التعريفات.. بقيت قامة المثقف مكسوّةً بنوع من فخامة الحضور.. أو هي على الأقل كذلك في أذهان الكثيرين.. الكثيرين ممن لا يُحسبون، غالباً، على هذه الفئة أي الفئة المثقفة.
وعلى الرغم من أن «كل الناس مثقفون» على رأي غرامشي.. قاصداً أن كل عمل مهما كان بسيطاً يشتمل على نشاط ذهني.. والفارق بين من هم مثقفون ومن هم غير مثقفين يرتبط فقط «بالوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يؤديها المثقف في المجتمع»..
وبالتالي لا يرتبط ما يؤدّيه من دورٍ بكم المعلومات أو بنتاجاته علمية أم أدبية.. ولا بما يلقيه من استعراضات كلامية محشوة بالكثير من المعرفة.. فما يهم، حسب غرامشي، ما يقدّمه المثقف من حالة استشرافية قيادية يستطيع من خلالها تفتيح أعين أبناء مجتمعه على الفظاعات المحيطة.
بالنسبة لفيلسوف مثل دولوز، يرتفع لديه منسوب الحساسية ممن يطلق عليهم مسمّى «مثقف»، وحساسيته تصل لدرجات من الاستهزاء حين يقول: «المثقفون الذين يسافرون بمثابة نكتة. إنهم لا يسافرون، إنهم يتجوّلون كي يتكلموا… يمضون من مكان يتكلمون فيه ليذهبوا لى مكان سيتكلمون فيه… لا يكفّون أبداً عن الكلام، وأنا لا أحتمل الكلام».. ذلك لأنه يرى الكلام قذراً بينما الكتابة نظيفة.. والثقافة من وجهة نظره تتكوّن من الكثير من الكلام.
كما لا يخفي رعبه من الناس واسعي الثقافة.. الذين يمتلكون مجموعاً مخيفاً من المعرفة.. معرفة احتياطية ومخزون واسع حول كل شيء.. وفق عبارته «الأمر مثيرٌ للقرف».
لميس علي
lamisali25@yahoo.com
التاريخ: الأربعاء 6-3-2019
رقم العدد : 16925