رحيل الفنانة التشكيلية غادة دهني يعيد إلى الذاكرة أجواء معارضها ولوحاتها، حيث كانت تبحث ومنذ بداياتها، عن حل لتجليات الرجوع إلى ينابيع الواقعية، دون أن تخون مشاعرها واحاسيسها الذاتية، لتصوغ باللمسة اللونية الواعية والهادئة ومن ثم المنفعلة، عناصر الطبيعة الخلوية المكتنزة بالورود والزهور, ومشاهد عباد الشمس والعناصرالانسانية والطيوروغيرها، وبدت في تحولاتها وتنقلاتها, بين التجسيد والتبسيط, والوهج والتعتيم, منفتحة على الاجواء اللونية المحلية ببريقها الضوئي.
تباين إيقاعي
والتنوع التقني والأسلوبي في معالجة الأشكال وفي وضع المادة اللونية, ساهم في اغناء تجربتها, وأدى إلى نوع من تحقيق العنصر الذاتي، في خطوات إيجاد الركائز والمنطلقات والرؤى والهواجس الفنية. وهي في ذلك, طرحت اللوحة الحديثة، المعبرة عن تداعيات الإقامة، والحاملة وهج الضوء وعناصر المكان، فالحنين إلى اللون المحلي، ولاسيما في معالجة فسحات الطبيعة والزهور، هو جزء أساسي في لوحاتها، وهكذا كانت تستعيد الأشكال المترسخة في الذاكرة والوجدان، حتى خلال إقامتها خارج سورية.
فبعض لوحاتها تعيدنا إلى تأثرها بمرحلة ما بعد ظهور المدرسة الانطباعية في الفن الحديث، وذلك لأن لوحاتها كانت تحمل شيئاً من الوهج الضوئي، حتى حدود البياض اللوني، إلا أنها كانت في أكثر لوحاتها أقرب إلى التعبيرية الكامنة في كثافة اللون, وصولاً إلى إضفاء المزيد من الإيقاعات اللونية المنثورة نثراً، في المدى التصويري, وهذه الطريقة التي اعتمدتها في نثر اللون فوق العجائن اللونية المتتابعة، تمنح السطح التصويري شاعرية بصرية مقروءة في الإيقاعات اللونية المتنوعة الدرجات والحساسيات، والتي تزيد من ارتباط أعمالها بالصياغة التشكيلية الحديثة.
ولقد رسمت الراحلة غادة الوجوه في بعض لوحاتها بمنطق عقلاني، باحثة عن جماليات اللمسة المدروسة، وتدرجات الظل والنور ونعومة الملمس، في معالجة الوجوه والأطراف, وهذا التنوع الذي بحثت عنه، في مجموعة لوحاتها, من خلال الألوان بدرجاتها وحساسياتها المختلفة، بل ومن خلال الانتقال، من المعالجة اللونية الهادئة والشاعرية, في أجزاء من اللوحة، إلى المعالجة العفوية والغنائية في أجزاء أخرى، معتمدة في الحالة الأخيرة، على تكثيف طبقة اللون، داخل المدى التصويري الذي تراه العين، ضمن إطار اللوحة.
حالات أنثوية
وظهر اهتمامها المتزايد بتجسيد حالات من المنظور الحديث، الحامل مدى ومناخ الفضاء الواقعي- التعبيري، وساعدتها خبرتها التقنية، في معالجة طبقات اللون، والاستعانة بسكين الرسم الحادة، على مضاعفة التأثير المشهدي، المقتطف من حضور اشارات الأشكال بعد الغاء الثرثرة الواقعية التفصيلية، وفي هذا الاطار تحولت الوجوه في بعض لوحاتها إلى مساحات لونية, لاوجود فيها للملامح وتعابير العيون، وبذلك أخرجت الوجه من الإطار الخاص إلى العام، ومن العالم المادي إلى العالم الروحي (وهذا يبرز بشكل واضح في لوحات المولوية والتجمعات النسائية).
فالأداء التشكيلي الذي جسدته في لوحاتها التي قدمتها في معارضها الفردية والجماعية أبعدها مسافات عن الاشارات الواقعية التسجيلية، وأدخلها في اطار الحالة التعبيرية، المعبرة عن عمق الانفعالات الداخلية، التي تمنح خطوطها وألوانها المزيد من التتابع الايقاعي، في خطوات وضع العجائن اللونية، وفي سياق رسم مواضيع الزهور، وتسجيل لحظات الأنوثة بحالاتها المختلفة والمتنوعة.
معارض عديدة
واللوحة التي قدمتها الراحلة غادة دهني في سلسلة معارضها الفردية في دمشق (في صالة نصير شورى 2001, وفي صالة آرت هاوس 2006, في بيت السباعي 2007) ومعرضها (في باريس 2005), ومعارضها المشتركة (معرضها الثنائي في صالة السيد 2007) ومشاركاتها الجماعية (في سورية و لبنان و باريس) كل ذلك ساهم في إبعاد اللوحة عن النعومة، التي نجدها في الأعمال التقليدية ولاسيما الكلاسيكية والواقعية التسجيلية، رغم أنها كانت تميل في بعض جوانب لوحاتها، ولاسيما في تجسيد الوجوه والأطراف، لإضفاء المزيد من الرقابة العقلانية المركزة في تجسيد التفاصيل، مبتعدة عن الكثافة اللونية التي تعتمدها في جوانب أخرى من لوحاتها.
وهي في ذلك كانت تستفيد من اختباراتها التقنية، التي توصلت إليها في بحثها اليومي، وكانت تعطي لوحاتها هذا التنويع في تجسيد الموضوعات الحميمية، ولاسيما الطبيعة والوجوه والزهور، كل ذلك بفرح داخلي أحياناً، وبحزن مركز أحياناً أخرى، حيث رسمت وجوه الفتيات الحالمات وحركات أيديهن الحاضنة أحياناً باقات الزهور والمتلهفة للحنان.
وجسدت الاستطالات الطولانية، وخاصة في معالجة الوجوه أحياناً، والتي منحت لوحاتها المزيد من التتابع الإيقاعي الروحاني، وهذا أعطاها قدرة على الاستفادة أو التأويل من معطيات الفنون القديمة، وحقق الاندفاع التشكيلي، الذي يجمع ما بين معطيات التلقائية والعفوية، في صياغة اللوحة الحديثة من منطلقات الفنون الأوروبية والشرقية في آن واحد.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الخميس 7-3-2019
الرقم: 16926