سوريَّةٌ هويَّتي/ وعنفوانُ مُهجتي/ أحبُّها حدَّ الظَمأ/ وتستقيها لهفتي/ نقدَّسٌ تُرابها/ كمشحةٍ في جبهتي/ سعيدةٌ باسمِها/ كفرحتي بطفلتي..
يا منبتاً منكِ ارتوى/ عظمي وكم أضحى قوي/ فهلِّلي في غبطةٍ/ وردِّدي لي غنوة/ سوريتي عشقٌ طغى/ فيكِ ازدهت قصيدتي/..
هكذا تغني القصيدة وطنها، وهكذا تتوقُ لهُ بعد أن تفاقم الحنين فأوجعها.. هكذا تعانقهُ وتضمِّد به جراح غربتها، وهكذا تحمله فيعبق به ياسمينِ مفرداتها..
هذا مافعلته الكاتبة والشاعرة السورية «وعد جرجس» المقيمة في «ألمانيا» منذ التاسعة عشر من عمرها.. المغتربة التي ترعرعت على أنفاس وطنٍ، اضطرّت وبعد حصولها على الشهادة الثانوية فيه، لمغادرته حاملةً إياه في قلبها وروحها وذاكرتها التي أغلقتها حباً عليه. أغلقتها عشقاً كتبتهُ مُذ أول الشباب.. استمرت في كتابتهِ، إلى أن جُرحَ ونزفَ وتوجعَ بطريقةٍ جعلتها تصرخ، والمدى غياب:
/الرّوحُ في تُرابها شبَّ الظَّمأ/ لعالمٍ فيهِ الضِّياءُ ما انطَفأ/ والقلبُ في بُنيانهِ رثُّ بدا/ زَفُراتُهُ عاقَ بها طعمُ الصّدأ/ يستشهِدُ الدَّمعُ على حَسراتِهِ/ في صفنةٍ تاهت بعمرٍ ما بدأ/ كمْ أكرَهُ العَيشَ بدنيا غربةٍ/ والوجدُ في روحيَّ يغلي ما هَدأ/ لموطنٍ من نزفهِ جفَّ دَميْ/ وعنفوانُ عشقهِ صدري ملأ/ فأحتسي من كأسهِ في حُرقةٍ/ وألعنُ الدُّنيا ببالي إن طرَأ/..
إنها سوريتها التي اضطرّت لمغادرتها، والتي عملت في وسائلِ إعلامها قبل هجرتها المبكرة التي حالت بينها وبين ما كانت ترسمه بأحلامها وطموحاتها.
سوريتها التي أطلقتها شاعرة بـ «شهقات ملونة» وروائية تنقلت من «حب زهرة» إلى «مواسمِ الأنفاس» التي استلهمت حكمتها من اليوميات التي جعلتها تشهد بأن «للواقعِ ظلاً يتنفّس».
هكذا أطلقتها، سائلة أبناء وجعها: «هل لي أن أعرف كم من وطنٍ يبكي بداخلك يامن تفتَّتت أسنانه وهو يُطبق فكيه بكلِّ مافي قهرهِ من قوةٍ، ليبتسم لي مكابراً؟..
هل لي أن أعرف كم من وطنٍ يبكي بداخلك يامن أتقنَ تزييف الابتسامة على شفتيه، لكنه نسي أن يُغمض عينيه، ونسيَ أنفاسهُ محبوسة في جرحه، حتى سالت أنفاسهُ من عينيه؟».
نعم، هكذا أطلقتها سوريتها التي حملتها في جوانحها وطن حبٍّ وحنين، وصرخة حقٍّ تمزّق المدى ولاتستكين. حملتها شوقاً إليها، وقصيدة هي الرصاصة التي واجهت بها الحرب والدمار والقتل والظلام والتكفير والإرهاب وكل من تآمرَ عليها.
حملتها أيضاً في دواوينها العديدة، وكفكفت جراحها ونزيفها ودمعها: «نحن شعب يهزم الموت بابتسامةٍ وقصيدة».
كل هذا، جعلها تستمرُ كتابة ما أوجع الحكايا بحكاياتها.. ما أعلن الحبّ على وطنها، واللعنة على أعداء قلبه، ومن هبّوا بأحقادهم وهمجيتهم ودونيَّتهم لطعنه، فعانقته بكلماتٍ تدثّرت بغضبِها ونبضه:
«لا نعرف ماذا تعني الحرية من وجهة نظركم، وإلى ماذا ترمي أفكار أحدكم.. لم نفهم يوماً ألفاظ الأقوام المتطفلة على مبادئ هذا الزمن الأحدب، فهي ليست ألفاظا عربية عصرية ولا حتى جاهلية، هي أبجدية جنٍّ حديث الولادة تحكمه سلطة شيطانية..
إن أقصى أحلامنا، أن نولدُ بطريقةٍ حضارية، ونكبر بطريقة حضارية، ونتعلم بطريقة حضارية، ونعيش معنى المساواة والاحترام، لا لشيء، فقط لنشعر بأن لإنسانيتنا قيمة.
لماذا لا نعيش هذه القيم، ونحن بناة الحضارة الفكرية والأدبية والسياسية والفنية وووو…؟!. لماذا سرق اللصوص أحلامنا في غفوةِ الليل، والضمير نائم.؟!. لماذا علقوا عرائس طفولتنا على سيوفِ الفجر المجرم، وقصّوا ضفائر الفتيات وأشعلوها فتائل لقنابل الموت، ومزّقوا شرايين الشباب، صراخاً ودماراً واحتراقاً»؟!..
حتماً، هي البشاعة التي جعلتها تعيش مع الحرفِ والورق.. تستعيذ من الحقدِّ وقوادهِ، وتصلي مرتلة آيات الانتماء لوطنٍ سيبقى فيها الحب والحياة والألق.. هو العماء الذي اضطرَّها للاستعانة بأبناءِ الضياء.. حماة الوطن أرضاً وجواً وبحراً، ومن خصَّت كل منهم بقولها نثراً:
«يحمل بيدٍ بندقية، وباليدِ الأخرى يكتبُ شعراً..!!
يرى الموت بعينٍ، وبالعين الأخرى يرى شمساً تشرقُ على مساحةٍ خضراء. ربما هي الوطن، وربما قلبه الذي يسكنه هذا الوطن.
هو فارسٌ عند كل صباح يمتطي خيلَ بطولته ويذهب ليعدم أنفاس الشرِّ، وعند المساء يعود حاملاً وردة لحبيبته المنتظِرة، ويكتب قصيدة»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الجمعة 22-3-2019
الرقم: 16938