الملحق الثقافي..د. محمود شاهين
يلم كتاب (ألفريد بخاش: السيرة المنسيّة لفنان رائد) لمؤلفه د. فاروق سعد بتفاصيل حياة الفنان التشكيلي السوري ألفريد بخاش (حلب 1921-1994) من خلال مقدمة وخمسة وعشرين فصلاً وخاتمة. والكتاب مزود بصور عدد كبير من رسوم ولوحات ومنحوتات الفنان، إضافة إلى صور شخصيّة تغطي مراحل حياته منذ كان في السنة الأولى من عمره وحتى عام رحيله.
يُشير المؤلف إلى أنه عرف فن ألفريد بخاش العام 1958، وتعرف إلى شخصه العام 1969 وذلك في صالة العرض التي تحمل اسمه في بيروت. ويؤكد أن هذا الفنان كان مالئ دنيا الفن وشاغل جمهوره في سوريّة ولبنان طيلة خمسة عقود امتدت من أوائل الأربعينات حتى منتصف التسعينات، وكانت أعماله في الرسم والتصوير والنحت والديكور وتصميم الكتب، محل تقدير نقاد الفن. لُقّب بفنان المرأة لما أبدعت فرشاته من لوحات تُعبّر عن جمالها روحاً وجسداً. وهو كما يقول الدكتور عفيف بهنسي: الفنان الرشيق الذي يُحرك موضوعاته حركات رائعة، رشيقة كأنها على موعد مع فرحة الأضواء التي تشع على جميع الألوان في اللوحة. وفي النحت يمتاز كل من ألفريد بخاش وجاك وردة بالرشاقة والنعومة في تماثيلهما النصفيّة والكاملة عن المرأة. ارتبط بخاش بصداقة حميمة مع رواد الفن التشكيلي اللبناني أمثال: صليبا الدويهي، عمر الأنسي، قيصر الجميّل، جورج بول خوري، رشيد وهبي، فريد عواد، شفيق عبود، مصطفى فروخ، وحليم الحاج.
قبل أن ينتقل للإقامة في بيروت العام 1953، شارك الفنان بخاش في العديد من المعارض الفنيّة الجماعيّة في حلب ودمشق، أما أول معرض فردي فقد أقامه العام 1938 بالاشتراك مع والده الفنان نديم في مرسمهما في التلل خلف مقهى الكلداني بالعزيزية بحلب، وقد أسهمت مطالعات ألفريد لما وقع تحت يده من كتب في مكتبة والده، وما كان يصل إلى حلب من كتب عربيّة وأجنبيّة في تكوينه الثقافي والفني.
بعدها تتالت معارضه الفرديّة، ومشاركاته في المعارض الجماعيّة في كل من مسقط رأسه، واللاذقيّة، ودمشق، وسويسرا، وفرنسا، وبيروت وغيرها.
مارس الفنان بخاش أجناس الفن التشكيلي كافةً، إضافة إلى الرسم على الكريستال، والرسوم التوضيحيّة، كما عمل مشرفاً فنياً في المكتب الصحفي الأمريكي للشرق الأوسط ببيروت، وهذا ما دفعه إلى أن يترك محترفه في حلب والانتقال للإقامة بشكل دائم في بيروت، لكنه لم يقطع صلته بوطنه، حيث ظل يتردد على حلب ودمشق، وكما لُقّب خليل مطران بشاعر القطرين (مصر ولبنان) أُطلق على ألفريد بخاش (فنان القطرين) سوريّة ولبنان بعد أن شارك في الحركة الفنيّة التشكيليّة في البلدين.
يشير الكتاب إلى تمايز الأعمال النحتيّة للفنان بخاش بالرشاقة والنعومة، لاسيّما التي تناول فيها المرأة، وكان دائم المطالبة في أن يكون للفن في سوريّة طريقة تعبيريّة خاصة تأخذ لها صفة معينة في الدلالة على طبيعة الحياة في بلادنا: الجو والطبيعة والإنسان بطبائعه وتاريخه ومشاكله، لهذا حاول إبراز الرشاقة الشرقيّة والحلم والبراءة في الشكل واللون والصفاء في النور.
يورد الكتاب بعض الآراء والأفكار التي كان الفنان بخاش يؤمن فيها ومنها: أن الفنان الإسباني بابلو بيكاسو هو الوحيد الذي أوهم الكثيرين أن باستطاعتهم أن يكونوا فنانين، وأن الشعر ليس صف كلمات، والموسيقى ليست المرور على القيثارة بالقوس، وليس الرسم حشد ألوان، وإنما الشعر هو كيف ترصف، والموسيقى كيف تخلق الانسجام، والرسم كيف توفق في انسجام وبراعة بين الألوان والظلال والفكرة. ويعتقد أن كل طفل لدينا يملك الرغبة والقابليّة لأن يكون فناناً، كون روح الفن متأصلة في شعبنا. ويرى ضرورة أن يمتلك الفنان قدرة في العقل، وعمقاً في الإحساس، وصدقاً في الشعور والتعبير، وأن الفن لا يصدر عن العاطفة فحسب، أو عن العقل وحده، بل عن هذه الوحدة المنسجمة التي تُدعى: النفس.
لقد استعان الفنان بخاش بأساليب الإيقاع والتنظيم والتناسب، من أجل إيجاد نوع من الوحدة في أعماله الفنيّة، على ما في موضوعاته من تعدد في الأشكال أو الحركات. وحتى يأخذ الفنان بما في موضوعه من عناصر تتشابه وأخرى مخالفة، فإنه يستطيع من هذا الطريق أن يُضفي على عمله إيقاعاً خاصاً يُكسبه صيغة زمنيّة، وهنا يجيء التكرار والتردد والتناظر والتماثل، فتكون جميعها بمثابة ظواهر فنيّة تساعد على إبراز الإيقاع، وإظهار التنوع، وإيضاح الجدة، وإجلاء عنصر الزمن، على حد تعبير الدكتور زكريا إبراهيم. وهكذا نجد في لوحات الفنان بخاش، ذلك الإدراك الدقيق لأبعاد الطول والعرض والسمك للهيئة، إن كانت حجماً أو مسطحاً، فهو رسام صاحب مذهب خاص يمتاز بقوة التعبير، وقوة الإحساس. يمثّل اللوحة بالفكرة، وليس ثمة نزعة واحدة له، كلاسيكيّة أو رومانتيكيّة، وإنما له مشاركات في كل منهما، وهي مشاركات عميقة تفصح عن نظرة تتخطى حواجز الأشياء لتنفذ إلى أصولها. ولرسومه طابع غريب لأنها تعيش في جوٍ من الحياة والحركة، وهو جو سحري متمّوج، تحس معه بالتجاوب، فهو بذلك فنان، لأن الفن تعبير عن الخلجات المستترة في الضمائر، وليس في المحاكاة والتقليد.
في العام 1953 كتب أدونيس تحت عنوان (عشتار تستفيق) مقالاً في جريدة البناء الدمشقيّة، تُعتبر من أجمل وأبلغ ما كُتب عن الفنان ألفريد بخاش جاء فيها: نحن في بحث دائم عن الفنان، ليس لأن بلادنا فقيرة بفنانيها، بل لأنها غنية بجمالها، غنية بفنها، غنية حتى لكأننا، رغم تحسسنا المبدع بغناها، ورغم أننا أغنينا به الدنيا، بعيدون عنه، بعيدون عن خباياه.
الجمال عندنا يُولد في كل لحظة: تحت العين البصيرة، والقلب النفاذ، وهو في ولادته أعجوبة كبرى، كأن اللحظة تسأل حالها بلهفة: متى أمر قبله على الخاطر، متى أسبقه في الكينونة؟ لكم يلزمنا قلوب كبيرة، لا تقبل الجمال تقبلاً فقط، بل تغامر في البحث عنه، وتكد وتتعب، وقد يلزمها أن تموت، فتقبل على الموت لأنها تقبل فيه على الجمال، فالجمال بقدر ما هو تفتح وعفويّة، هو بمعنى ما، تعب يصل إلى العروق، وقد يمصها مصاً نهماً، تذوي بعده وتذبل. نحن في بحث دائم عن الفنان، رغم الهول الذي يتربص بكل فنان، فمن لا يحترق لا يُضيء، وهنا يُصبح الفن دماً.
القصيدة غير مجرد الوزن والقافية والكلمة. هي مرآة حيّة، فيها من القلب، وفيها من بؤبؤ العين، وفيها من العروق. واللوحة الفنيّة غير مجرد الشكل. ليست قطعة قماش تُدهن كيفما اتفق. اللمسات اللونيّة فيها لا تتحكم في توزيعها الصدفة، تقذف واحدة، وتقذف هناك أخرى. اللوحة قطعة من الحياة. اللوحة حياة في صورة جديدة. اللوحة تتحرك، وقد ترمي بك، وقد تشد بك إلى موعد مع الجمال، لا تعرف أين هو، غير أنها تأخذك إليه قسراً. وهنا الفن: خلقت عشتار نفسها من البحر، من هذا البحر، بحرنا. خرجت من الصدفة، عارية كالسماء. كانت جميلة، وكانت إلهة الجمال من سوريّة، ولذلك لم تمت. خلقها الجمال في أفروديت اليونان، ثم خلقها في فينوس الرومان، وهو يخلقها الآن في ريشة كل فنان.
أرأيتها هنا، وهي تستفيق في ريشة ابن طيب لذلك البحر، بحرنا الذي خرجت منه، ولذلك الشعب شعبنا الذي قال لها: كوني إلهة الجمال ليس لي فقط، بل للعالم. وليس لزمن ما، بل للزمان. أرأيتها هنا تنظر إلى الشمس وكأنها تقول لها، وهي تنفض النوم عن جفونها: ها أنا هنا؟
ثم أرأيتها كأنها تفتح صدرها لصبايا بلادنا، تهمس لهن قائلة: افرحن باسمي، أحببن، ولتقل كل واحدة منكن لحبيبها: أنا الجمال، أنا صدفة من بحرنا، أنا ربوة في بلادنا، أنا عقيدة من جدلية الشمس. يقول أدونيس: ألفريد بخاش ليس نبياً في الفن، ولا إلهاً. إنه إنسان، وإنسان متواضع جداً. كل فنه لا يقول إنه وصل إلى القمة، بل يقول إنه في دربه إليها. ولا يقول إن المنحوتة عنده أو اللوحة شيء يعلو على الحجر واللون ويعلو على الفن، بل يقول إنها شيء جهدت في أن تكون فناً، وتعبت لكي أزرع فيه الجمال.
الأثر الفني عند بخاش، منحوتة كانت أو لوحة، تطلع إلى ذروة الجمال، وإحساس مرهف يرافق هذا التطلع. تحس في اللوحة عنده أن اللون والضوء والظل، أن عناصر اللوحة تتسابق كلها، لتصل إلى تلك الذروة، وهي تعرف أنها بعد في أول الدرب. حسب ألفريد بخاش، أنه مؤمن بالجمال. مؤمن بأن الفنان مهما أبدع، يبدو في ديمومة الجمال وجدته، كأنه لم يبدع شيئاً. وحسبه أنه مؤمن بأن الفن تعب وجهد ومشقة، وقد يكون موتاً! إنتاجه مؤمن بأعجوبة الجمال في بلاده، الأعجوبة التي تسبق اللحظة من الكينونة، في مرّها على الخاطر. وحسبه أن ألف عشتار في بلادنا، تنتظر أن تستفيق على يديه، وأنه لن يكون فناناً إلا إذا استفاقت، أو بدأت تستفيق.
التاريخ: الثلاثاء26-3-2019
رقم العدد : 16940