بروح المتفحص لشيء ما في صلب أعماقه، تبدو نظرة ميلان كونديرا لفن الرواية.
هو هذه المرة، لا يخط رواية تتحمّل روح الفكاهة التي لاحت في كثير من أعماله، إنما يُقدِم على معاينة فنّ امتهنه وأصبح أحد ألمع أسماء ما يطلق عليه فن الرواية الحديثة.
وتختلط علينا في مؤلّفه «الوصايا المغدورة»، التسميات، فهل هو هنا دارس، أم ناقد، أم إنه يقدّم مجرد تأملاتٍ لفن مارسه، وطرح فيها رؤاه التي تجعله منظراً من طرازٍ رفيع.. دون أن يخشى ولوج بوابة فلسفة الفن بروح الروائي.
من الأفكار التي تثيرها قراءة وصايا كونديرا، التي ترتبط وتتصاعد من بذرة/فكرة يستطرد فيها، قوله في الفصل الأول: «اعتاد المجتمع الغربي أن يقدّم نفسه كمجتمع لحقوق الإنسان، لكن قبل أن يستطيع الإنسان نيل حقوقه، كان لابدّ أن يتكون كفرد… وما كان هذا ليحدث دون ممارسة مديدة للفنون الأوروبية وفن الرواية خصوصاً الذي يعلّم القارئ أن يندهش من الآخر، وأن يسعى لفهم حقائق تختلف عن حقائقه. بهذا المعنى أصاب سيوران بتسمية المجتمع الأوروبي (مجتمع الرواية) وبكلامه عن الأوروبيين على أنهم (أبناء الرواية)».
وبالتالي كلّما ترسّخت الرواية في مجتمعٍ ما، أصبح أكثر قبولاً للآخر وفهم حقائقه أكثر.. وصولاً إلى تشكّل كينونة الإنسان كفرد.. حينها يستطيع نيل حقوقه.
لا يبتعد عن ذهنك حين تتلقى فكرة كتلك، إجراء عملية مقارنة بين مجتمع الرواية «الأصيل» ومجتمعٍ آخر يتصاعد فيه المد الروائي حديثاً بالنسبة للأوروبيين.
مع كونديرا، يتطور الأمر.. وتتسع رقعة تأثير الفن الروائي.. تتمدد لتشكل وعياً.. وتصبح دليلاً على فروق زمنية أكثر من واضحة لمجتمعات تحيا على ذات الكوكب لكنها في عصور مختلفة، تتفاوت درجات حداثتها.. وسيقدمّ فهماً فارقاً لما حدث للروائي سلمان رشدي في روايته «آيات شيطانية» وما أثارته من اتهامه بالتجديف ومهاجمة الإسلام.
يلاحظ كونديرا في حالة رشدي تلك، أنها حالة فريدة في التاريخ، لأن الأخير ينتمي، بالأصل، إلى مجتمع «لم يزل في قسمه الأعظم يعيش حتى الآن في عصر سابق على الأزمنة الحديثة».. بينما «يكتب كتابه في أوروبا في عصر الأزمنة الحديثة، أو بدقة أكثر في نهاية هذا العصر».. وهو ما أدّى إلى تصادم العصور من خلال عمل أدبي.. بمعنى اختلاف طرق التلقي وطرق فهم الآخر.
هل يمكن اعتبار ذاك الفاصل الزمني فاصلاً قائماً على الوعي الروائي/الفني..؟
فمن لا يمتلك وعياً بأهمية الفن والإبداع لا تترسّخ لديه أصول بتحقيق حداثة فعلية.
ثمة فاصل زمني/فنّي، يغربل العقليات ويفرزها بين حديثة وأخرى لم تزل تحبو وصولاً لبوابة الأزمنة الحديثة.
لميس علي
lamisali25@yahoo.com
التاريخ: الثلاثاء 9-4-2019
رقم العدد : 16952