الثورة – سامر البوظة:
لا شك أن زيارة الرئيس أحمد الشرع الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية ولقاءه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، شكلت نقطة تحول بارزة وعلامة فارقة في مسيرة العلاقات السورية-الأميركية بعد عقود من القطيعة، خاصة أنها الزيارة الأولى لرئيس سوري إلى البيت الأبيض منذ الاستقلال، حملت معها رسائل عميقة تتجاوز البروتوكول السياسي، لتفتح الباب أمام تغييرات عميقة محتملة على توازنات المنطقة وملفاتها الحساسة.
يرى محللون أن التقارب السوري-الأميركي والدعم العلني من ترامب للرئيس الشرع بعث برسائل واضحة في كل الاتجاهات بتأييد واشنطن ودعمها المطلق للإدارة الجديدة في دمشق، ودفعها نحو تحقيق الاستقرار، والرسالة وصلت للخصوم قبل الحلفاء، وبشكل مباشر وصلت إلى تل أبيب بأن الولايات المتحدة تريد منح دمشق فرصة، وبأنها لا تدعم استراتيجية إسرائيل في تقسيم سوريا، وهذا ما وضع السياسة الإسرائيلية في مأزق جديد.
مأزق للسياسة الإسرائيلية
الكاتب والمحلل السياسي الروسي، ديمتري بريجع، أكد أن زيارة الرئيس الشرع للبيت الأبيض لم تكن محطة دبلوماسية عابرة، بل شكلت ضربة سياسية صامتة للاستراتيجية الإسرائيلية ومأزقًا حقيقياً لسياسات تل أبيب تجاه سوريا، وبشكل خاص سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في المنطقة.
فالرسالة الأميركية كانت واضحة بأن واشنطن تريد منح دمشق فرصة، ولا تدعم خيار تفتيت سوريا أو الإبقاء عليها ساحة مفتوحة للفوضى.
إسرائيل نفذت أكثر من ألف هجوم منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، بينما التزمت دمشق بسياسة ضبط النفس حتى في مواجهة ضربات مباشرة على مؤسسات سيادية، هذا التباين بين التصعيد الإسرائيلي والهدوء السوري وضع إسرائيل في موقف سياسي صعب، وأظهر أن استراتيجيتها التقليدية لإضعاف دمشق لم تعد فعّالة.
عندما زار الرئيس السوري أحمد الشرع البيت الأبيض، وجّهت إدارة ترامب رسالةً واضحةً إلى إسرائيل: الولايات المتحدة تريد منح سوريا فرصةً، ولا تدعم استراتيجية إسرائيل لتقسيم دمشق وإضعافها، ورغم أن هذا الموقف الأميركي معروفٌ منذ زمن، إلا أن إسرائيل واصلت الضغط في واشنطن لعكسه.
والآن، ومع انضمام سوريا إلى التحالف ضد داعش، دخلت إسرائيل في مأزق سياسي، والسؤال الحقيقي الآن هو: هل ستبقى إسرائيل عنيدةً أم ستُغيّر نهجها نحو ما هو أفضل لإسرائيل وسوريا؟.
وفي حديث خاص لصحيفة الثورة، أوضح بريجع أن هذه الزيارة حملت رسالة واضحة مفادها أن واشنطن لم تعد تنظر إلى دمشق بوصفها طرفاً معزولاً، بل أصبحت شريكاً في إعادة ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط، وهذا بحد ذاته أمر يخالف الرهان الإسرائيلي القديم القائم على إبقاء سوريا في حالة ضعف تام، وصراع مفتوح مع أطراف مختلفة.
الرسالة الأميركية لإسرائيل
وأضاف بريجع: إن هناك نقطة هامة وجوهرية لا بد من الإضاءة عليها، وهي أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وجهت عبر هذه الزيارة رسالة غير مباشرة إلى تل أبيب مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية تريد منح دمشق فرصة لإعادة الاندماج في النظام الدولي والإقليمي.
وهذا شيء مهم جداً في المرحلة الهامة والحساسة في بناء الدولة السورية الجديدة، وأنها لا تدعم في هذه المرحلة الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على تفتيت سوريا، أو تكريس أمر واقع تقسيمي في الجنوب أو شمال شرق سوريا أو غير ذلك.
وأشار المحلل الروسي، إلى أن هذا التحول لا يعني التخلي عن أمن إسرائيل كأولوية في الأجندة الأميركية، ولكن يعني أن واشنطن ترى أن استقرار سوريا الموحدة والقادرة على ضبط حدودها أفضل على المدى البعيد من استمرار الفراغات الأمنية والفوضى التي تستغلها قوى متعددة.
التحول في الموقف الأميركي تجاه سوريا والانتقال من سياسة العزلة والعقوبات القصوى إلى مقاربة تقوم على الحوار والشراكة مع دمشق، يعكس إعادة صياغة فعلية لأولويات واشنطن في الشرق الأوسط، إذ لم يعد استقرار سوريا الموحدة مشكلة، بل أصبح جزءاً من معادلة التوازن التي تحتاجها واشنطن نفسها، وكما نعلم، فإن واشنطن تضع أولويات لها في الشرق الأوسط ضمن سياسات اتفاقية الدرع النووية وغيرها.
وعن التركيز على إسقاط الأنظمة أو تغييرها، أوضح بريجع أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت تنظر إلى الملفات من زاوية إدارة التوازنات ومنع تمدد قوى منافسة أو المشروع الإيراني بشكل كامل في الساحة السورية، لذلك، تصبح الشراكة مع الإدارة السورية الجديدة هي واحدة من أدوات واشنطن في إعادة التموضع.
سياسة ضبط النفس
يقول المحلل السياسي الروسي، إن إسرائيل نفذت منذ سقوط نظام بشار الأسد أكثر من 1000 هجوم استهدفت من خلاله منشآت مختلفة ومخازن أسلحة، كما استهدفت أهدافاً في العمق السوري تحت شعار منع تمدد القوى المعادية لها، وفرض خطوط حمراء دائمة، لكن التزام دمشق بضبط النفس وتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة وضع تل أبيب في مأزق سياسي وإعلامي.
فمع الوقت، بدا واضحاً أن هذه الضربات لم تغير في التوازن الاستراتيجي كما كانت تأمل إسرائيل، بل أضرت باستراتيجيتها القائمة على إضعاف دمشق، ولم تعد قادرة على فرض وقائع حاسمة، فالاستراتيجية العسكرية المستمرة لم تغير الواقع السياسي، بل أظهرت محدودية جدواها في ظل بداية انفتاح دولي على القيادة السورية الجديدة، ودخول لاعبين دوليين جدد على خط التسوية.
وفي هذا السياق، بيّن المحلل السياسي أن المفاوضات متعددة المستويات من قنوات ووساطات إقليمية ودولية تعكس إدراكاً عالمياً ودولياً متزايداً بأن استمرار المواجهة المفتوحة لم يعد مجدياً لا لإسرائيل ولا حتى لسوريا ولا حتى للقوى الكبرى.
فبدأت القناعة تتبلور بأن الاستقرار في سوريا سينعكس على أمن المتوسط وعلى أمن الطاقة وملف الهجرة وممرات التجارة، وهو ما يدفع عواصم كبرى للضغط نحو صياغة ترتيبات سياسية وأمنية جديدة في المنطقة.
وبهذا الخصوص، أوضح بريجع أنه أمام تبني الولايات المتحدة الأميركية للرئيس الشرع كشريك شرعي في أي تسوية مقبلة، تصبح خيارات إسرائيل المستقبلية أكثر تعقيداً ومحصورة بين أمرين: إما التكيف مع الترتيبات الأمنية والسياسية الجديدة، وإما دفع نفسها نحو المواجهة مع الراعي الأميركي نفسه، فهي لا تستطيع تجاهل المظلة الأميركية التي تدعم من خلالها دمشق، كما لا تستطيع الاستمرار في سياساتها وسلوكياتها السابقة دون ثمن سياسي من واشنطن أو أوروبا أو روسيا.
لذلك، سنجد أن إسرائيل مضطرة لإعادة تعريف مفهوم الردع وحدودها وحدود تدخلها في سوريا أو في المنطقة، والبحث عن صيغ جديدة تضمن أمنها من خلال التفاهمات والآليات المشتركة، وهنا يبدو أن قبول إسرائيل بصيغة أمنية جديدة مع دمشق ترعاها واشنطن، وربما تشارك فيها قوى دولية، يمكن أن يصب في مصلحة جميع الأطراف إذا صيغت بطريقة متوازنة. فإسرائيل ستضمن أمنها وتعترف في الوقت ذاته بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وبذلك تستعيد سوريا موقعها ودورها، ما يتيح لدمشق الفرصة لإعادة التقاط أنفاسها، والبدء في مسيرة إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات، مع تخفيف الضغوط والعقوبات.
وبالمقابل، تحصل إسرائيل على ضمانات أمنية واضحة، وخفض كبير في التوتر على مستوى الجبهة الشمالية، أما الولايات المتحدة، فستقدم نفسها مهندساً لتوازن إقليمي جديد بدلاً من فوضى دائمة، ويحد من نفوذ خصومها في المنطقة ويحافظ في الوقت نفسه على الاستقرار الإقليمي.
لذلك، لا يمكن قراءة زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى البيت الأبيض بمعزل عن صورة أعمق؛ سوريا تحاول الخروج من مرحلة الانهيار في عهد نظام بشار الأسد المخلوع، والذي أدى بالبلاد إلى وضع بائس جداً ووضعها في عزلة، والانتقال إلى مرحلة جديدة من إعادة التوازن وبناء شراكات متعددة.