منذ أن انتهت نتائج المتغيرات الدولية التي حصلت من 1985-1991م من القرن الماضي إلى انهيار النظام العالمي ثنائي القطبية وبروز نظام القطب الواحد المهيمن اتجه السجال العالمي إلى محور مركزي أشار إلى أن تحسّناً سريعاً سوف يطرأ على العلاقات الدولية تتوطد فيه حالة الأمن والسلم الدوليين طالما أن المعسكرين بزوال واحد منهما انتهت صورة الأحلاف العسكرية بينهما وهذا يعني أن سبب التوتر الدولي كان وجود الاتحاد السوفياتي على رأس المنظومة الاشتراكية، وحلف وارسو العسكري الذي كان يمنع السياسات الأطلسية من الوصول إلى غاياتها في صياغة علاقات دولية آمنة، ومستقرة وفيها من تبادل المنافع وتكامل المصالح ما يجعل البشرية تحيا في سلام تزداد معه وتائر التنمية، وتتحقق فيه مشاريع المستقبل الأفضل للأمم المختلفة وشعوبها.
وحينما زال حلف وارسو بدل أن يباشر حلف الأطلسي بالزعامة الأميركية تنفيذ خلاف ما كان يُستكره من وجود حلف وارسو إذا كان هذا الحلف مهدداً بوجوده الحياة الدولية الآمنة فعلاً رأينا أن حلف الأطلسي سارع إلى التقدم في أوروبا الشرقية ضمن جيواستراتيجية تطويق الاتحاد الروسي رغم أن هذا الاتحاد لم يعد شيوعياً، وليس له حلف عسكري منافس، ولم يعد يمثل قطباً في النظام الدولي الذي تسيّدته أميركا وأصبحت تمثل شرطي العالم فيه. والحقيقة الأولى التي ظهرت لنتائج المتغيرات الدولية هي أن الصراع الذي كان بين المعسكرين: الرأسمالي، والشيوعي لم يكن من وجهة نظر الرأسمالية الليبرالية من أجل خير الشعوب، وقيام علاقات دولية عادلة بمقدار ما كان صراع نفوذ من أجل مدّ السيطرة على سيادات الأمم، ونهب ثرواتها، ولو كان المظهر هو حرص الليبرالية على الحرية وحقوق الإنسان وهو حرص كاذب بدليل أن خروج المعسكر الشيوعي بالزعامة السوفياتية من خارطة العالم لم تستقبله أميركا بالتطبيق الأفضل لمواثيق الأمم المتحدة، ولا باحترام القانون الدولي الإنساني بل كان العكس حيث استثمرت أميركا فقدان التوازن الدولي، وتموّج العلاقات الدولية لتدخل في حقول فقدان الأمن والسلم الدوليين، وطغيان غطرسة خطاب القوة المتغطرسة وشرعت الحروب بين الأمم المتنازعة تزداد، وفي عقد من الزمان زادت أعداد الحروب على ما تم خلال نصف قرن تقريباً مما كان في النظام الدولي ثنائي القطبية، والنتائج التي توصلت إليها أمم الأرض قدّمت البراهين على عجز الإدارة الأميركية البراغماتية عن قيادة النظام الدولي قيادة عادلة تراعي فيها مصالح الأمم كبراها، وصغراها، ويتم فيها تطبيق قواعد العدل الدولي، والديمقراطية الدولية.
ونتذكر كيف أتت الليبرالية الجديدة بنظام العولمة الدولي حتى تجعل من العالم قرية كونية صغيرة للكومبيوتر تسهّل عليها فيه أنظمة التحكّم، والسيطرة، ومع هذا لم تهتم إدارة القطب الواحد المهيمن حتى بمصالح حلفائها الأطلسيين، وأضحت سياساتها المعتمدة على خطاب القوة في العلاقات الدولية تهدد الجميع. وحين فشل مشروع العولمة الدولي في تحقيق الغايات الأمروصهيونية للسيطرة العالمية طرحت أميركا الفوضى الخلاقة حتى تدبّ حالة عدم الاستقرار الدولي وتصطرع الأمم، وتحترب وتتدمر ليعاد تشكيلها من جديد على مقاسات النظام الأميركي الأنكلوساكسوني وليتحول نظام الدولة الأميركية إلى نظام دولي مفروض بالقوة الغاشمة وبكل ما يعطل تطبيق مواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي. وحين تأكّد لشعوب الاتحاد السوفياتي القديم أن ما حدث من متغيرات لم يحقق لها مشاريعها الوطنية، ولا احترام حقوق سيادتها على دولها، وأصبحت شعوب الاتحاد الروسي تشهد في كل فترة من اقتراب القواعد الأطلسية من حدود الاتحاد لتهديد المجال الحيوي له، ونسف قواعد الأمن الإقليمي والدولي على حدٍّ سواء إذ ذاك شرعت تتغير قواعد الاشتباك الدولي، وأوراق اللعبة على صعيد عالمي ما جعل الاتحاد الروسي والصين يتقاربان أكثر فأكثر، ويوقّعان اتفاقيات، ومعاهدات تضمن لهما الرّد الطبيعي على التهديدات الأمروأطلسية لأمنهما المشترك، وبهذا ظهرت مجموعة البريكس، ومعاهدة شنغهاي، وقزوين، وآسيان، وبدأ الفيتو المشترك في مجلس الأمن الدولي في وجه المشاريع الأمروصهيونية خاصة حينما فجّرت أميركا وأدواتها الثورات الكاذبة في الدول الجمهورية العربية فقط واعتبرت النظم الملكية والمشيخية التابعة لها أنموذجاً للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن الطبيعي أن تكون قوى الطغيان الدولي حليفة للعنف، والتعصب، والتكفير، والإرهاب الدولي لأن هذه الحالات هي الممر الوحيد لهذه القوى لتستطيع التدخل في الشؤون الداخلية للأمم وتفجير دولها، ومجتمعاتها من الداخل حتى يدخل الجميع في الفوضى، والاصطراع، والانقسام ليبدأ التقسيم من الخارج لها، ومن ثم اقتسامها. نعم هذه هي الطريقة التي قادت بها أميركا النظام الدولي حوالي أكثر من عقدين من الزمان، وفي أجواء الثورات المزعومة عند الدول الوطنية الجمهورية العربية بدأت الخلافات الدولية تتّسع، وفجوة تناقض المصالح تزداد حتى شرعت المسألة السورية تشغل العلاقات الدولية، وتعيد تنضيدها وفق معطيات الميدان العسكري في الحرب على الإرهاب الذي أسقط الرهانات الأمروصهيونية، وهزم حرب الوكلاء التابعين في المحيط الإقليمي لسورية. وعلى نتائج الحرب التي خاضها الجيش السوري البطل، وحلفاؤه في جبهة المقاومة، أو مع الاتحاد الروسي أخذت أشكال العلاقات الدولية تتحرك بما يهيئ البيئة العالمية لظهور نظام دولي متعدّد الأقطاب، ولم تعد أميركا سيدة القرار العالمي، ووُضع لها الحدّ في شنّ الحروب على الأمم الأخرى من خارج مجلس الأمن رغم ما تمكّنت من اختراق هذه القاعدة في العراق، وسورية لكي لا يندحر الإرهاب الذي رعته، ودعمته، ووظفت له الوكلاء التابعين لها في المحيطين العربي، والإسلامي. وعلى الرغم من لجوء الرئيس الأميركي أوباما إلى الحرب الناعمة رأينا كيف أن ترامب خرج على هذه الاستراتيجية، ومنذ وصوله إلى الإدارة الأميركية انقلب على العلاقات الدولية التي تحترم القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، وأعاد خطاب القوة المتغطرسة إلى الحياة الدولية، ونسف الأمن والسلم الدوليين بخروجه من عدد كبير من المعاهدات التي كانت أميركا قد وقّعت عليها ولو كانت مع حلفائها مثل: اتفاقية المناخ، والتجارة الدولية، والنووي مع إيران، وصار يجاهر بالعداء غير المحدود للعرب عبر إعلانه عن القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، ومن ثم إعلانه عن تأييد بسط السلطة الإسرائيلية على الجولان، وطرحه لصفقة القرن التي تنذر بالتصفية الكاملة للقضية الفلسطينية لمصلحة دولة الاحتلال العنصرية.
وكذلك مارس أشنع أنواع الحصار الذي لا تقرّه أية شرعة إنسانية على الأمم ولا سيما سورية، وإيران، ومقاومة حزب الله في لبنان حليف سورية في الحرب على الإرهاب الدولي على أرضنا. وما يبدو يومياً من سياسات ترامب العنصرية يظهر به الحليف المتغطرس للعنصرية الصهيونية ولا سيما حين ساعد على نجاح نتنياهو في انتخابات الكنيست الأخيرة على الرغم من تصريح هذا الأخير بضم مستوطنات الضفة الغربية، وعدم القبول بحل الدولتين. نعم إن ما يمارسه ترامب من سياسات تتسم باستهتار كبير بالقواعد الإنسانية للعلاقات الدولية فهو يمارس الابتزاز المالي، والاقتصادي على حلفائه، كما يمارسه على خصومه، ولن يكون للعلاقات الدولية أي مظهر من الاستقرار ما دام هذا المستهتر في نواميس التعامل الأخلاقي بين الأمم عبر القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، وهذا الذي يدعونا -نحن العرب- أن نواجهه بالتعاضد.
بقلم د: فايز عز الدين
التاريخ: الأثنين 15-4-2019
رقم العدد : 16957