الملحق الثقافي..حاتم حميد محسن:
بين عامي 1980 و 2000 واجهت الديمقراطية بعض النكسات، ولكن منذ عام 2000 كانت هناك عدة ديمقراطيات تمر في ظروف صعبة. حين طُرد الأوتوقراط من السلطة، فشل معارضوهم في خلق أنظمة ديمقراطية فاعلة. حتى في الديمقراطيات القائمة سلفاً أصبحت العيوب مقلقة والإرباك في السياسة عاماً. ولكن فقط في السنوات القليلة الماضية بدت الديمقراطية كما لو أنها اكتسحت العالم. في النصف الثاني من القرن العشرين ضربت الديمقراطية جذورها في أصعب الظروف – في ألمانيا التي أضرت بها النازية، وفي الهند التي فيها أكبر نسبة من السكان الفقراء، وفي التسعينات في جنوب أفريقيا التي تشوهت بالتمييز العنصري. التحرر من الاستعمار خلق عدداً من الديمقراطيات الجديدة في أفريقيا وآسيا، بينما فتحت الأنظمة الأوتوقراطية الطريق للديمقراطية في اليونان عام 1974، وإسبانيا عام 1975، والأرجنتين عام 1983 والبرازيل عام 1985 وتشيلي عام 1989.
في عام 2000 صنّف مجموعة من الخبراء الأمريكان حوالي 120 دولة بالديمقراطية وهو ما يعادل نسبة 63% من مجموع دول العالم. وفي تلك السنة اجتمع ممثلون عن أكثر من 100 دولة في وارسو للادّعاء بأن «رغبة الشعوب» كانت «الأساس في سلطة الحكومة». تقرير حكومي صدر في أمريكا صرح بأن ما يشهده العالم من تجارب فاشلة للأنظمة التوتاليتارية والسلطوية يجعل الديمقراطية تبدو هي المنتصرة. هذه الثقة المفرطة ربما يمكن فهمها بعد تلك النجاحات. لكن انتصار الديمقراطية بدا أقل حتمية. بعد سقوط أثينا التي شهدت أول نموذج ديمقراطي، دخل ذلك النموذج السياسي في حالة سبات حتى مجيء التنوير بعد أكثر من 2000 سنة. في النصف الأول من القرن العشرين انهارت الديمقراطيات الوليدة في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. في عام 1941 كانت هناك فقط 11 ديمقراطية متبقية حين أعلن الرئيس الأمريكي روزفلت «بأنه من غير الممكن حماية شعلة الديمقراطية من ظلام البربرية».
التقدم الذي حصل في أواخر القرن العشرين توقّف في القرن الواحد والعشرون وربما يتراجع. حيث أن 40% فقط من سكان العالم يعيشون في دول فيها انتخابات حرة وعادلة. ويتوقع بأن عام 2013 كان السنة الثامنة على التوالي تتراجع فيها الحرية في العالم، وأن ذروة التقدم كانت في بداية القرن. بين عامي 1980 و2000 شهد طريق الديمقراطية عدداً محدوداً من النكسات، ولكن منذ عام 2000 برز العديد منها، وأصبحت مشاكل الديمقراطية أعمق مما تشير إليه الأرقام. العديد من الديموقراطيات الاسمية انزلقت نحو الأوتوقراطية، حيث حافظت على الشكل الخارجي للديمقراطية من خلال الانتخابات، ولكن بدون حقوق ومؤسسات والتي هي المظهر المهم في عمل النظام الديمقراطي. وفي خارج دول الغرب، كانت الديمقراطية تتقدم فقط لتنهار لاحقاً، بينما ارتبطت الديمقراطية في دول الغرب عادة بالديون والشلل في الداخل. للديمقراطية دائماً نقادها، ولكن الآن يجري التعامل مع الشكوك القديمة باحترام متجدد لأن ضعف الديمقراطية في فضائها الغربي، وهشاشة نفوذها في أماكن أخرى أصبح واضحاً وبشكل متزايد. لماذا إذاً فقدت الديمقراطية زخمها في التقدم نحو الأمام؟
عودة التاريخ
السببان الرئيسيان لما تقدم هما الأزمة المالية العالمية في العام 2007-2008 وصعود الصين. كان الضرر الذي سببته الأزمة العالمية سيكولوجياً ومالياً أيضاً. إنها كشفت الضعف الأساسي المتأصل في الأنظمة السياسية الغربية، وأضعفت الثقة بالذات التي كانت واحدة من أعظم الأصول لدى تلك الأنظمة. الحكومات وسّعت باستمرار الحقوق على مر العقود فخلقت مستويات خطيرة من الديون، والسياسيون اعتقدوا أنهم أوقفوا دورات الصعود والهبوط في الاقتصاد boom-bust cycles (1) وقلّلوا كراهية المخاطرة في الاستثمار. العديد من الناس أصبحوا مرتبكين تجاه أنظمتهم السياسية خاصة عندما رأوا أن حكوماتهم تمول المصارف من أموال دافعي الضرائب ومن ثم وقفوا محبطين عندما استمر الممولون بدفع المكافآت الضخمة لأنفسهم. أدت الأزمة كذلك إلى خلق حالة من الشعور العارم بالاستياء والغضب في العالم النامي تجاه قرارات إجماع واشنطن (2). في تلك الأثناء، كسر الحزب الشيوعي الصيني احتكار العالم الغربي للتقدم الاقتصادي. لاري سمرس من جامعة هارفرد لاحظ أن أمريكا عندما كانت تنمو بسرعة فهي ضاعفت مستويات المعيشة فيها خلال ثلاثين سنة، أما الصين فقد ضاعفت مستويات المعيشة كل عقد في الثلاثين سنة الماضية. النخبة الصينية جادلت بأن نموذجهم من السيطرة القوية للحزب الشيوعي ترافق مع جهد مكثف لتشغيل الناس الموهوبين في الطبقة العليا من الحزب فكان ذلك أكثر فاعلية من الديمقراطية وأقل ميلاً للجمود. القيادة السياسية في الصين تتغير كل عقد وهناك ضخ مستمر للمواهب الجديدة لأن كوادر الحزب يتم اختيارها وفقاً لقابليتها على تحقيق الأهداف. الصين تقول إن نموذجها أكثر كفاءة من الديمقراطية وأقل عرضة للجمود.
كان قادة الصين قادرين على معالجة بعض المشاكل الكبيرة لبناء الدولة التي يمكن أن تأخذ عقوداً للتعامل معها في ظل الأنظمة الديمقراطية. فقط خلال سنتين تمكنت الصين من توسيع نظام التقاعد ليغطي 240 مليون شخص إضافي من السكان الريفيين وهو أكثر من العدد الكلي للمشمولين بنظام التقاعد الأمريكي. العديد من الصينيين مستعدون للقبول بنظامهم إذا كان يخلق نمواً. استبيان PEW لعام 2013 للأوضاع العالمية بيّن أن 85% من الصينيين كانوا «راضين جداً» تجاه بلدهم مقارنة بـ 31% من الأمريكيين. بعض المثقفين الصينيين أصبحوا فخورين جداً. Zhang Weiwei من جامعة Fudan يرى أن الديمقراطية تحطم الغرب وخاصة أمريكا بسبب أنها تقوم بمأسسة الجمود وتقلل من أهمية عمل القرارات وتفرز رؤساء من الدرجة الثانية مثل جورج بوش الابن. أما Yu Keping من جامعة بكين يرى أن الديمقراطية تجعل الأشياء البسيطة «معقدة وتافهة» وتسمح «بمحاولات السياسيين في الخداع وتضليل الناس». مفكر آخر لاحظ أن «العديد من الدول النامية التي استوردت القيم والنظم السياسية الغربية تشهد حالة من الاضطراب والفوضى» وأن الصين تقدم النموذج البديل. دول من أفريقيا (رواندا) حتى جنوب شرق آسيا (فيتنام) تأخذ بهذه الوصفة على محمل الجد. التقدم الصيني كان له التأثير الكبير في سياق سلسلة الإخفاقات التي مني بها الديمقراطيون منذ عام 2000.
وعلى الرغم من أن الديمقراطية «طموح عالمي» مثلما أشار بوش وبلير، لكنها ممارسة تتجذر ثقافياً. الدول الغربية تقريباً جميعها وسّعت حقوق التصويت بعد تأسيس أنظمة سياسية معقدة وتوفير خدمات مدنية فعالة وحقوق دستورية راسخة في مجتمعات احتضنت برغبة وصدق أفكار الحقوق الفردية والقضاء المستقل.
الديمقراطية في أمريكا
لكن في السنوات الأخيرة بدت المؤسسات التي تقدم نموذجاً للديمقراطيات الجديدة كأنها متقادمة وعاجزة عن القيام بذلك. الولايات المتحدة أصبحت مثالاً لحالة الجمود والانسداد بوجود مساعدي الأحزاب واللوبيات حتى وصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وغرقت مرتين في الديون في الفترة الأخيرة. ديمقراطيتها هي أيضاً فاسدة بفعل أساليب الاحتيال التي تقوم بها السلطة في تغيير حدود المناطق الانتخابية وتوسيعها لتضم أكبر عدد من الناس وهو ما يسمى gerrymandering. إن عملية رسم الحدود الدستورية لترسيخ سلطات منْ في الحكم شجع على التطرف لأن السياسيين يكتسبون الرضا فقط من الإخلاص للحزب وبالتالي استُبعد من العملية عدد كبير من الناخبين. صوت النقود كان أعلى من أي وقت مضى في السياسة الأمريكية. الآلاف من اللوبيات (أكثر من 20 لكل عضو بالكونغرس) زادوا من طول التشريعات وتعقيداتها، الأفضل كان دائماً هو المتاجرة بالامتيازات الخاصة. كل هذا خلق انطباعاً بأن الديمقراطية الأمريكية هي للبيع وأن الأغنياء لديهم سلطة أكبر من الفقراء. النتيجة هي أن صورة أمريكا والديمقراطية ذاتها تعرضت للنقد العنيف.
الاتحاد الأوروبي
كذلك لم يكن الاتحاد الأوروبي قدوة للديمقراطية. إن قرار إدخال اليورو عام 1999 تم من جانب التكنوقراط، كانت هناك فقط دولتان وهما الدانمارك والسويد أجرتا استفتاءً على المسألة (كلاهما قررتا الرفض). الجهود للفوز بموافقة شعبية في معاهدة لشبونة التي وحّدت ورسخت السلطة في بروكسل جرى إهمالها عندما اتضح أن الناس يصوتون بالاتجاه الخاطئ. خلال الأيام المظلمة من أزمة اليورو أجبرت نخبة اليورو إيطاليا واليونان لاستبدال قادتهم المنتخبين ديمقراطياً بآخرين من التكنوقراط. البرلمان الأوروبي هو محاولة غير ناجحة لإصلاح العجز في الديمقراطية الأوروبية، فجرى تجاهله ونبذه. أما الاتحاد الأوروبي فأصبح مرتعاً للأحزاب الشعبوية مثل حزب Geert Wilders للحرية في هولندا وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا الذي يدّعي الدفاع عن الناس العاديين أمام النخب غير الكفوءة. الخطط التي صُممت لتدجين الشعبوية الأوروبية قادت في النهاية إلى إنعاشها ومدّها بالحياة.
الاضطراب الديمقراطي
تعاني الديمقراطية حتى في قلعتها الرئيسية من مشاكل بنيوية خطيرة، فلم تكن تلك المشاكل حالات ثانوية منعزلة. منذ فجر عصر الديمقراطيات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر عبّرت الديمقراطية عن نفسها من خلال الدولة القومية والبرلمانات الوطنية. الناس ينتخبون ممثلين عنهم يرفعون دعامات السلطة القومية لفترة محددة. لكن هذا الترتيب أصبح الآن عرضة للهجوم من الأعلى والأسفل على السواء. من الأعلى، لأن العولمة غيرت وبعمق السياسات القومية. السياسيون الوطنيون تنازلوا عن الكثير من السلطات في مسائل التجارة والتدفق المالي إلى الأسواق العالمية والهيئات العابرة للحدود، وهكذا هم يجدون أنفسهم غير قادرين على الإيفاء بالوعود التي قطعوها للناخبين. المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي وسّعوا نفوذهم. هناك تبرير منطقي لهذا الاتجاه، كيف يمكن لدولة منفردة أن تتعامل مع مشاكل مثل تقلبات المناخ أو التهرب الضريبي؟ السياسيون الوطنيون استجابوا أيضاً للعولمة بتقليص حرياتهم وتسليم السلطة للتكنوقراط غير المنتخبين في بعض المناطق. عدد الدول ذات البنوك المركزية المستقلة، مثلاً، ازداد من 20 بنكاً عام 1980 إلى أكثر من 160 بنكاً عام 2014.
أما من الأسفل فتبرز أيضاً تحديات بنفس القوة، من دول تشهد دعوات انفصالية مثل كتالونيا في إسبانيا واسكتلندا في المملكة المتحدة، الولايات الهندية، وبعض بلديات المدن الأمريكية. الجميع يحاول استعادة السلطة من الحكومات المركزية. هناك أيضاً مجموعة ما يسميه موسى نعيم «السلطات الجزئية» micro-power (3) مثل المنظمات غير الحكومية واللوبيات التي تعرقل السياسات التقليدية وتجعل الحياة أكثر صعوبة للقادة الديمقراطيين والأوتوقراطيين على السواء. إن الانترنيت جعل من السهل التنظيم والتعكير في عالم يمكن للناس فيه المشاركة في تصويت تلفزيون الواقع كل أسبوع، أو المساعدة في رفع طلبات رسمية للحكومة بمجرد الضغط على الماوس. إن ماكينة ومؤسسات الديمقراطية البرلمانية وحيث تتم الانتخابات فقط بعد عدد محدد من السنوات تبدو كأنها تنتمي إلى الماضي. إن التحدي الأكبر للديمقراطية لا يأتي من الأعلى ولا من الأسفل وإنما يأتي من الداخل، من الناخبين أنفسهم. قلق أفلاطون الكبير حول الديمقراطية يأتي من أن المواطنين «يعيشون حياتهم اليومية مستمتعين بمرح اللحظة»، ذلك القلق أثبت صوابيته. الحكومات الديمقراطية اعتادت على التعايش مع عيوب هيكلية كبيرة كشيء متوقع وعادي، تقترض لكي تعطي الناخبين ما أرادوا في الأجل القصير، بينما تتجاهل الاستثمارات الطويلة الأجل. فرنسا وإيطاليا لم تحققا التوازن في الموازنة لأكثر من ثلاثين سنة. الأزمة المالية كشفت وبقوة صعوبة إدامة مثل هذه الديمقراطيات الممولة بالديون.
وفي أعقاب الأزمة المالية بدأت الحوافز الاقتصادية تتراخى وتضعف كثيراً، السياسيون يجب عليهم الآن مواجهة الصعوبة في إيجاد التوازن بين موقفين متضادين وهما النمو الثابت والإقراض السهل، وهي الصعوبة التي استطاعوا تجاوزها في السابق. لكن إقناع الناخبين بعصر جديد من التقشف سوف لن يكون مرغوباً في صناديق الاقتراع. النمو البطيء وموازنات شديدة التقليص سيحرّض على الصراع عندما تتنافس جماعات المصالح على الموارد المحدودة. هذه المنافسة تبرز عندما يتقدم سكان الغرب في السن فيصبح الموقف أكثر سوءاً. كبار السن دائماً يكونون أفضل من الشباب في إيصال أصواتهم، يصوتون بأعداد كبيرة وينظمون جماعات الضغط. هم باستمرار لديهم عدد لا بأس به يقف إلى جانبهم. العديد من الديمقراطيات تواجه الآن صراعاً بين الماضي والحاضر، بين الحقوق الموروثة من جهة واستثمارات المستقبل من جهة أخرى. إن التكيف مع الأوقات الصعبة يصبح أكثر صعوبة مع تعاظم عدم الثقة تجاه السياسيين. عضوية الأحزاب تتضاءل في العالم المتطور: فقط 1% من البريطانيين عام 2014 هم أعضاء في أحزاب سياسية مقارنة بـ 20% عام 1950. نسبة المقترعين المؤهلين تتراجع أيضاً: دراسة لـ 49 ديمقراطية وجد فيها أن الديمقراطية هبطت بنسبة 10% من النقاط بين 1980 – 1984 و 2007-2013. استبيان لسبع دول أوروبية عام 2012 وجد أن أكثر من نصف المصوتين «ليس لديهم ثقة بالحكومة». استبيان YouGov البريطاني للرأي وجد في نفس السنة أن 62% من الناخبين يتفقون على أن «السياسيين يكذبون في كل الأوقات».
تصحيح العيوب
إن السخرية من السياسة تجسدت في ضياع الفوارق بين أعمال الفن وحملات الاحتجاج السياسية. في عام 2010 كان حزب آيسلندا أفضل يعد الناس علناً بالفساد، وقد فاز بالأصوات لإدارة مجلس مدينة ريكافيك. وفي عام 2013 صوّت ربع السكان لحزب أسسه الكوميدي الإيطالي Beppe Grillo. كل هذه السخرية الشعبية تجاه السياسة قد تكون صحية لو كان الناس يطلبون القليل من حكوماتهم، وإنما هم يستمرون بطلب المزيد. النتيجة ستكون خطيرة وسيحصل مزيج غير مستقر من اعتمادية تجبر الحكومة على التوسع وتحمّلها أعباء لا تستطيع القيام بها واحتقار لها ينزع عنها الشرعية. الشلل الديمقراطي يسير جنباً إلى جنب مع الفساد الديمقراطي. مشاكل الديمقراطية في موطنها الأصلي يوضح النكسات في أماكن أخرى. الديمقراطية عملت جيداً في القرن العشرين. دول أخرى أرادت تقليد القوة العظمى، لكن عندما تعاظم نفوذ الصين بدأت أمريكا وأوروبا تفقدان جاذبيتهما كنموذج فاعل في نشر الديمقراطية.
الأزمة المالية العالمية كشفت بوضوح صعوبة استمرار الديمقراطيات الممولة بالديون. وفي نفس الوقت، واجهت الديمقراطية في العالم النامي نفس المشاكل التي برزت في العالم الغني. هي أيضاً أفرطت في الإنفاق القصير الأجل بدلاً من الاستثمارات الطويلة المدى. في البرازيل سُمح لعمال القطاع العام بالتقاعد في سن 53 لكن الحكومة لم تنفق الكثير لإيجاد مطار حديث. الهند تدفع الكثير لأعضاء الجماعات لكنها تستثمر القليل في البنية التحتية. الأنظمة السياسية وقعت في فخ جماعات المصالح وجرى إضعافها بفعل العادات المضادة للديمقراطية. في الهند نجد الدعم للديمقراطية يتآكل حتى ضمن النخبة الرأسمالية ذاتها. رجال الأعمال الكبار في الهند يشكون من أن الديمقراطية الفوضوية في الهند تنتج بنية تحتية روتينية بينما نظام الصين ينتج القطارات السريعة والمطارات الحديثة وأنظمة السير المتطورة. كانت الديمقراطية تحت التهديد دائماً.
مؤسسو الديمقراطية الحديثة مثل جيمس ماديسون وجون ستيوارت مل، اعتبرا الديمقراطية آلية فعالة لكنها غير تامة. شيء ما بحاجة ليُصمم بعناية لكي يمكن الاستفادة من الإبداعية الإنسانية مع مراقبة انحراف الإنسان، ومن ثم إبقاءه في نظام يعمل جيداً، بتزويده الدائم بالوقود وتكييفه.
أحد أسباب فشل الديمقراطيات الحديثة هي أنها وضعت الكثير من الاهتمام بالانتخابات والقليل منه في الخصائص الأخرى الضرورية للديمقراطية. سلطة الدولة تحتاج للتوازن، وحقوق الفرد في الكلام والتنظيم يجب أن تكون مضمونة. الديمقراطيات الأكثر نجاحاً هي التي تجنبت إغواء الأكثرية أو الـ majoritarianism وهي الفكرة بأن الفوز بالانتخابات يسمح للغالبية بعمل كل ما ترغب. الهند 1947 والبرازيل 1980 نجحت ديمقراطيتهما لأنهما وضعتا حدوداً لسلطة الحكومة ووفرتا ضمانات لحقوق الأفراد.
إن العولمة والثورة الرقمية جعلتا من معظم الديمقراطيات السائدة موضة قديمة. الديمقراطيات القائمة تحتاج إلى تحديث أنظمتها السياسية لمعالجة المشاكل التي تواجهها في الداخل ولكي تقوّي صورة الديمقراطية في الخارج. بعض الدول قامت سلفاً بهذه العملية. إصلاح تمويل الأحزاب أيضاً مطلوب لكي تُعلن جميع أسماء المتبرعين أمام الجمهور علناً لتقليل تأثير المصالح الخاصة. البرلمان الأوروبي يطلب من أعضاء البرلمان إبراز الإيصالات مع الإنفاق. إن أفضل طريقة لتقييد سلطة المصالح الخاصة هو تقييد عدد المكافآت التي يمكن أن تمنحها الدولة، كما أن أحسن طريقة لمعالجة الاستياء الشعبي تجاه السياسيين هو في تقليل حجم الوعود المعلن عنها. ماديسون يرى «أن الصعوبة الكبرى تكمن في هذا: أنت يجب أولاً أن تمكّن الحكومة من السيطرة على المحكومين، ومن ثم تلزمها في السيطرة على نفسها». فكرة الحكومة المحدودة كانت أيضاً جزءاً مكملاً للديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية. ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 أسسا مبادئ لا تستطيع الدول خرقها حتى لو أرادت الأغلبية ذلك. الفصل بين السلطات جاء بدافع الخوف من الاستبداد. ولكن الآن وخاصة في الغرب، يكمن الخطر الكبير للديمقراطية في الحجم المتزايد للدولة. التوسع المفرط للحكومة يقلل من الحرية ويمنح المزيد من السلطات لجماعات المصالح الخاصة. الخطر الآخر يأتي من أسلوب الحكومة في قطع الوعود التي لا تستطيع إنجازها وهي تتمثل إما بخلق حقوق لا تستطيع دفعها أو بتمويل حروب لا تستطيع الانتصار فيها، مثل حرب المخدرات. كل من الناخبين والحكومة يجب إقناعهم بمزايا القبول بالقيود على ميول الدولة الطبيعية بالتوسع. تفويض السيطرة على السياسة النقدية لبنوك مركزية مستقلة كبح جماح التضخم المتسارع في الثمانينات، والآن ربما حان الوقت لتطبيق نفس مبادئ الحكومة المحدودة على نطاق واسع من السياسات. الديمقراطيات الناضجة حالها حال الناشئة تتطلب فصلاً ملائماً بين السلطات في الحكومات المنتخبة. تستطيع الحكومة وضع كوابح ذاتية بطرق مختلفة. يمكن للحكومة أيضاً إجبار السياسيين لتجديد القوانين كل عشر سنوات. يمكنها الطلب من اللجان غير الحزبية اقتراح اصلاحات طويلة المدى. السويد أنقذت نظام المعاشات التقاعدية من الانهيار عندما اقترحت لجنة مستقلة إجراء إصلاحات براغماتية تتضمن استخدام واسع للتقاعد الخاص وربط التقاعد بسنوات الحياة المتوقعة.
إن تفويض السلطات صعوداً نحو التكنوقراط يجب أن يتوازن مع تفويض السلطة نحو الأسفل – نحو الناس العاديين. العملية هنا تستخدم كلا القوتين العولمة والمحلية بدلاً من محاولة تجاهلهما أو مقاومتهما. مع التوازن الملائم لهذين الاتجاهين فإن نفس القوى التي تهدد الديمقراطية من الأعلى عبر العولمة، ومن الأسفل عبر صعود السلطات الجزئية سوف تعزز الديمقراطية بدلاً من إضعافها.
What’s gone wrong with Democracy, The Economist March 2014
الهوامش
(1) دورة الصعود والهبوط هي عملية من التوسع والتقليص الاقتصادي تحدث بشكل متكرر. هذه الدورة هي من أهم سمات الاقتصاد الرأسمالي الحالي. أثناء فترات الصعود يبدأ الاقتصاد بالنمو، وفرص العمل تصبح متوفرة بكثرة، والسوق يعطي مردوداً عالياً للاستثمارات. وفي فترة الهبوط اللاحق ينكمش الاقتصاد والناس يفقدون وظائفهم بينما المستثمرون يخسرون نقودهم. دورة الصعود والهبوط تختلف من حيث شدتها واستمراريتها. السياسون يكذبون، فهم لا يستطيعون إلغاء هذه الدورات لأنها جزء من طبيعة النظام الرأسمالي ذاته.
(2) عبارة إجماع واشنطن Wasington consensus استعملها لأول مرة الاقتصادي جون وليمسون عام 1989 وتعني حزمة من الإصلاحات لمعالجة مشاكل اقتصاديات الدول النامية. هذ
بين عامي 1980 و 2000 واجهت الديمقراطية بعض النكسات، ولكن منذ عام 2000 كانت هناك عدة ديمقراطيات تمر في ظروف صعبة. حين طُرد الأوتوقراط من السلطة، فشل معارضوهم في خلق أنظمة ديمقراطية فاعلة. حتى في الديمقراطيات القائمة سلفاً أصبحت العيوب مقلقة والإرباك في السياسة عاماً. ولكن فقط في السنوات القليلة الماضية بدت الديمقراطية كما لو أنها اكتسحت العالم. في النصف الثاني من القرن العشرين ضربت الديمقراطية جذورها في أصعب الظروف – في ألمانيا التي أضرت بها النازية، وفي الهند التي فيها أكبر نسبة من السكان الفقراء، وفي التسعينات في جنوب أفريقيا التي تشوهت بالتمييز العنصري. التحرر من الاستعمار خلق عدداً من الديمقراطيات الجديدة في أفريقيا وآسيا، بينما فتحت الأنظمة الأوتوقراطية الطريق للديمقراطية في اليونان عام 1974، وإسبانيا عام 1975، والأرجنتين عام 1983 والبرازيل عام 1985 وتشيلي عام 1989.
في عام 2000 صنّف مجموعة من الخبراء الأمريكان حوالي 120 دولة بالديمقراطية وهو ما يعادل نسبة 63% من مجموع دول العالم. وفي تلك السنة اجتمع ممثلون عن أكثر من 100 دولة في وارسو للادّعاء بأن «رغبة الشعوب» كانت «الأساس في سلطة الحكومة». تقرير حكومي صدر في أمريكا صرح بأن ما يشهده العالم من تجارب فاشلة للأنظمة التوتاليتارية والسلطوية يجعل الديمقراطية تبدو هي المنتصرة. هذه الثقة المفرطة ربما يمكن فهمها بعد تلك النجاحات. لكن انتصار الديمقراطية بدا أقل حتمية. بعد سقوط أثينا التي شهدت أول نموذج ديمقراطي، دخل ذلك النموذج السياسي في حالة سبات حتى مجيء التنوير بعد أكثر من 2000 سنة. في النصف الأول من القرن العشرين انهارت الديمقراطيات الوليدة في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. في عام 1941 كانت هناك فقط 11 ديمقراطية متبقية حين أعلن الرئيس الأمريكي روزفلت «بأنه من غير الممكن حماية شعلة الديمقراطية من ظلام البربرية».
التقدم الذي حصل في أواخر القرن العشرين توقّف في القرن الواحد والعشرون وربما يتراجع. حيث أن 40% فقط من سكان العالم يعيشون في دول فيها انتخابات حرة وعادلة. ويتوقع بأن عام 2013 كان السنة الثامنة على التوالي تتراجع فيها الحرية في العالم، وأن ذروة التقدم كانت في بداية القرن. بين عامي 1980 و2000 شهد طريق الديمقراطية عدداً محدوداً من النكسات، ولكن منذ عام 2000 برز العديد منها، وأصبحت مشاكل الديمقراطية أعمق مما تشير إليه الأرقام. العديد من الديموقراطيات الاسمية انزلقت نحو الأوتوقراطية، حيث حافظت على الشكل الخارجي للديمقراطية من خلال الانتخابات، ولكن بدون حقوق ومؤسسات والتي هي المظهر المهم في عمل النظام الديمقراطي. وفي خارج دول الغرب، كانت الديمقراطية تتقدم فقط لتنهار لاحقاً، بينما ارتبطت الديمقراطية في دول الغرب عادة بالديون والشلل في الداخل. للديمقراطية دائماً نقادها، ولكن الآن يجري التعامل مع الشكوك القديمة باحترام متجدد لأن ضعف الديمقراطية في فضائها الغربي، وهشاشة نفوذها في أماكن أخرى أصبح واضحاً وبشكل متزايد. لماذا إذاً فقدت الديمقراطية زخمها في التقدم نحو الأمام؟
عودة التاريخ
السببان الرئيسيان لما تقدم هما الأزمة المالية العالمية في العام 2007-2008 وصعود الصين. كان الضرر الذي سببته الأزمة العالمية سيكولوجياً ومالياً أيضاً. إنها كشفت الضعف الأساسي المتأصل في الأنظمة السياسية الغربية، وأضعفت الثقة بالذات التي كانت واحدة من أعظم الأصول لدى تلك الأنظمة. الحكومات وسّعت باستمرار الحقوق على مر العقود فخلقت مستويات خطيرة من الديون، والسياسيون اعتقدوا أنهم أوقفوا دورات الصعود والهبوط في الاقتصاد boom-bust cycles (1) وقلّلوا كراهية المخاطرة في الاستثمار. العديد من الناس أصبحوا مرتبكين تجاه أنظمتهم السياسية خاصة عندما رأوا أن حكوماتهم تمول المصارف من أموال دافعي الضرائب ومن ثم وقفوا محبطين عندما استمر الممولون بدفع المكافآت الضخمة لأنفسهم. أدت الأزمة كذلك إلى خلق حالة من الشعور العارم بالاستياء والغضب في العالم النامي تجاه قرارات إجماع واشنطن (2). في تلك الأثناء، كسر الحزب الشيوعي الصيني احتكار العالم الغربي للتقدم الاقتصادي. لاري سمرس من جامعة هارفرد لاحظ أن أمريكا عندما كانت تنمو بسرعة فهي ضاعفت مستويات المعيشة فيها خلال ثلاثين سنة، أما الصين فقد ضاعفت مستويات المعيشة كل عقد في الثلاثين سنة الماضية. النخبة الصينية جادلت بأن نموذجهم من السيطرة القوية للحزب الشيوعي ترافق مع جهد مكثف لتشغيل الناس الموهوبين في الطبقة العليا من الحزب فكان ذلك أكثر فاعلية من الديمقراطية وأقل ميلاً للجمود. القيادة السياسية في الصين تتغير كل عقد وهناك ضخ مستمر للمواهب الجديدة لأن كوادر الحزب يتم اختيارها وفقاً لقابليتها على تحقيق الأهداف. الصين تقول إن نموذجها أكثر كفاءة من الديمقراطية وأقل عرضة للجمود.
كان قادة الصين قادرين على معالجة بعض المشاكل الكبيرة لبناء الدولة التي يمكن أن تأخذ عقوداً للتعامل معها في ظل الأنظمة الديمقراطية. فقط خلال سنتين تمكنت الصين من توسيع نظام التقاعد ليغطي 240 مليون شخص إضافي من السكان الريفيين وهو أكثر من العدد الكلي للمشمولين بنظام التقاعد الأمريكي. العديد من الصينيين مستعدون للقبول بنظامهم إذا كان يخلق نمواً. استبيان PEW لعام 2013 للأوضاع العالمية بيّن أن 85% من الصينيين كانوا «راضين جداً» تجاه بلدهم مقارنة بـ 31% من الأمريكيين. بعض المثقفين الصينيين أصبحوا فخورين جداً. Zhang Weiwei من جامعة Fudan يرى أن الديمقراطية تحطم الغرب وخاصة أمريكا بسبب أنها تقوم بمأسسة الجمود وتقلل من أهمية عمل القرارات وتفرز رؤساء من الدرجة الثانية مثل جورج بوش الابن. أما Yu Keping من جامعة بكين يرى أن الديمقراطية تجعل الأشياء البسيطة «معقدة وتافهة» وتسمح «بمحاولات السياسيين في الخداع وتضليل الناس». مفكر آخر لاحظ أن «العديد من الدول النامية التي استوردت القيم والنظم السياسية الغربية تشهد حالة من الاضطراب والفوضى» وأن الصين تقدم النموذج البديل. دول من أفريقيا (رواندا) حتى جنوب شرق آسيا (فيتنام) تأخذ بهذه الوصفة على محمل الجد. التقدم الصيني كان له التأثير الكبير في سياق سلسلة الإخفاقات التي مني بها الديمقراطيون منذ عام 2000.
وعلى الرغم من أن الديمقراطية «طموح عالمي» مثلما أشار بوش وبلير، لكنها ممارسة تتجذر ثقافياً. الدول الغربية تقريباً جميعها وسّعت حقوق التصويت بعد تأسيس أنظمة سياسية معقدة وتوفير خدمات مدنية فعالة وحقوق دستورية راسخة في مجتمعات احتضنت برغبة وصدق أفكار الحقوق الفردية والقضاء المستقل.
الديمقراطية في أمريكا
لكن في السنوات الأخيرة بدت المؤسسات التي تقدم نموذجاً للديمقراطيات الجديدة كأنها متقادمة وعاجزة عن القيام بذلك. الولايات المتحدة أصبحت مثالاً لحالة الجمود والانسداد بوجود مساعدي الأحزاب واللوبيات حتى وصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وغرقت مرتين في الديون في الفترة الأخيرة. ديمقراطيتها هي أيضاً فاسدة بفعل أساليب الاحتيال التي تقوم بها السلطة في تغيير حدود المناطق الانتخابية وتوسيعها لتضم أكبر عدد من الناس وهو ما يسمى gerrymandering. إن عملية رسم الحدود الدستورية لترسيخ سلطات منْ في الحكم شجع على التطرف لأن السياسيين يكتسبون الرضا فقط من الإخلاص للحزب وبالتالي استُبعد من العملية عدد كبير من الناخبين. صوت النقود كان أعلى من أي وقت مضى في السياسة الأمريكية. الآلاف من اللوبيات (أكثر من 20 لكل عضو بالكونغرس) زادوا من طول التشريعات وتعقيداتها، الأفضل كان دائماً هو المتاجرة بالامتيازات الخاصة. كل هذا خلق انطباعاً بأن الديمقراطية الأمريكية هي للبيع وأن الأغنياء لديهم سلطة أكبر من الفقراء. النتيجة هي أن صورة أمريكا والديمقراطية ذاتها تعرضت للنقد العنيف.
الاتحاد الأوروبي
كذلك لم يكن الاتحاد الأوروبي قدوة للديمقراطية. إن قرار إدخال اليورو عام 1999 تم من جانب التكنوقراط، كانت هناك فقط دولتان وهما الدانمارك والسويد أجرتا استفتاءً على المسألة (كلاهما قررتا الرفض). الجهود للفوز بموافقة شعبية في معاهدة لشبونة التي وحّدت ورسخت السلطة في بروكسل جرى إهمالها عندما اتضح أن الناس يصوتون بالاتجاه الخاطئ. خلال الأيام المظلمة من أزمة اليورو أجبرت نخبة اليورو إيطاليا واليونان لاستبدال قادتهم المنتخبين ديمقراطياً بآخرين من التكنوقراط. البرلمان الأوروبي هو محاولة غير ناجحة لإصلاح العجز في الديمقراطية الأوروبية، فجرى تجاهله ونبذه. أما الاتحاد الأوروبي فأصبح مرتعاً للأحزاب الشعبوية مثل حزب Geert Wilders للحرية في هولندا وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا الذي يدّعي الدفاع عن الناس العاديين أمام النخب غير الكفوءة. الخطط التي صُممت لتدجين الشعبوية الأوروبية قادت في النهاية إلى إنعاشها ومدّها بالحياة.
الاضطراب الديمقراطي
تعاني الديمقراطية حتى في قلعتها الرئيسية من مشاكل بنيوية خطيرة، فلم تكن تلك المشاكل حالات ثانوية منعزلة. منذ فجر عصر الديمقراطيات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر عبّرت الديمقراطية عن نفسها من خلال الدولة القومية والبرلمانات الوطنية. الناس ينتخبون ممثلين عنهم يرفعون دعامات السلطة القومية لفترة محددة. لكن هذا الترتيب أصبح الآن عرضة للهجوم من الأعلى والأسفل على السواء. من الأعلى، لأن العولمة غيرت وبعمق السياسات القومية. السياسيون الوطنيون تنازلوا عن الكثير من السلطات في مسائل التجارة والتدفق المالي إلى الأسواق العالمية والهيئات العابرة للحدود، وهكذا هم يجدون أنفسهم غير قادرين على الإيفاء بالوعود التي قطعوها للناخبين. المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي وسّعوا نفوذهم. هناك تبرير منطقي لهذا الاتجاه، كيف يمكن لدولة منفردة أن تتعامل مع مشاكل مثل تقلبات المناخ أو التهرب الضريبي؟ السياسيون الوطنيون استجابوا أيضاً للعولمة بتقليص حرياتهم وتسليم السلطة للتكنوقراط غير المنتخبين في بعض المناطق. عدد الدول ذات البنوك المركزية المستقلة، مثلاً، ازداد من 20 بنكاً عام 1980 إلى أكثر من 160 بنكاً عام 2014.
أما من الأسفل فتبرز أيضاً تحديات بنفس القوة، من دول تشهد دعوات انفصالية مثل كتالونيا في إسبانيا واسكتلندا في المملكة المتحدة، الولايات الهندية، وبعض بلديات المدن الأمريكية. الجميع يحاول استعادة السلطة من الحكومات المركزية. هناك أيضاً مجموعة ما يسميه موسى نعيم «السلطات الجزئية» micro-power (3) مثل المنظمات غير الحكومية واللوبيات التي تعرقل السياسات التقليدية وتجعل الحياة أكثر صعوبة للقادة الديمقراطيين والأوتوقراطيين على السواء. إن الانترنيت جعل من السهل التنظيم والتعكير في عالم يمكن للناس فيه المشاركة في تصويت تلفزيون الواقع كل أسبوع، أو المساعدة في رفع طلبات رسمية للحكومة بمجرد الضغط على الماوس. إن ماكينة ومؤسسات الديمقراطية البرلمانية وحيث تتم الانتخابات فقط بعد عدد محدد من السنوات تبدو كأنها تنتمي إلى الماضي. إن التحدي الأكبر للديمقراطية لا يأتي من الأعلى ولا من الأسفل وإنما يأتي من الداخل، من الناخبين أنفسهم. قلق أفلاطون الكبير حول الديمقراطية يأتي من أن المواطنين «يعيشون حياتهم اليومية مستمتعين بمرح اللحظة»، ذلك القلق أثبت صوابيته. الحكومات الديمقراطية اعتادت على التعايش مع عيوب هيكلية كبيرة كشيء متوقع وعادي، تقترض لكي تعطي الناخبين ما أرادوا في الأجل القصير، بينما تتجاهل الاستثمارات الطويلة الأجل. فرنسا وإيطاليا لم تحققا التوازن في الموازنة لأكثر من ثلاثين سنة. الأزمة المالية كشفت وبقوة صعوبة إدامة مثل هذه الديمقراطيات الممولة بالديون.
وفي أعقاب الأزمة المالية بدأت الحوافز الاقتصادية تتراخى وتضعف كثيراً، السياسيون يجب عليهم الآن مواجهة الصعوبة في إيجاد التوازن بين موقفين متضادين وهما النمو الثابت والإقراض السهل، وهي الصعوبة التي استطاعوا تجاوزها في السابق. لكن إقناع الناخبين بعصر جديد من التقشف سوف لن يكون مرغوباً في صناديق الاقتراع. النمو البطيء وموازنات شديدة التقليص سيحرّض على الصراع عندما تتنافس جماعات المصالح على الموارد المحدودة. هذه المنافسة تبرز عندما يتقدم سكان الغرب في السن فيصبح الموقف أكثر سوءاً. كبار السن دائماً يكونون أفضل من الشباب في إيصال أصواتهم، يصوتون بأعداد كبيرة وينظمون جماعات الضغط. هم باستمرار لديهم عدد لا بأس به يقف إلى جانبهم. العديد من الديمقراطيات تواجه الآن صراعاً بين الماضي والحاضر، بين الحقوق الموروثة من جهة واستثمارات المستقبل من جهة أخرى. إن التكيف مع الأوقات الصعبة يصبح أكثر صعوبة مع تعاظم عدم الثقة تجاه السياسيين. عضوية الأحزاب تتضاءل في العالم المتطور: فقط 1% من البريطانيين عام 2014 هم أعضاء في أحزاب سياسية مقارنة بـ 20% عام 1950. نسبة المقترعين المؤهلين تتراجع أيضاً: دراسة لـ 49 ديمقراطية وجد فيها أن الديمقراطية هبطت بنسبة 10% من النقاط بين 1980 – 1984 و 2007-2013. استبيان لسبع دول أوروبية عام 2012 وجد أن أكثر من نصف المصوتين «ليس لديهم ثقة بالحكومة». استبيان YouGov البريطاني للرأي وجد في نفس السنة أن 62% من الناخبين يتفقون على أن «السياسيين يكذبون في كل الأوقات».
تصحيح العيوب
إن السخرية من السياسة تجسدت في ضياع الفوارق بين أعمال الفن وحملات الاحتجاج السياسية. في عام 2010 كان حزب آيسلندا أفضل يعد الناس علناً بالفساد، وقد فاز بالأصوات لإدارة مجلس مدينة ريكافيك. وفي عام 2013 صوّت ربع السكان لحزب أسسه الكوميدي الإيطالي Beppe Grillo. كل هذه السخرية الشعبية تجاه السياسة قد تكون صحية لو كان الناس يطلبون القليل من حكوماتهم، وإنما هم يستمرون بطلب المزيد. النتيجة ستكون خطيرة وسيحصل مزيج غير مستقر من اعتمادية تجبر الحكومة على التوسع وتحمّلها أعباء لا تستطيع القيام بها واحتقار لها ينزع عنها الشرعية. الشلل الديمقراطي يسير جنباً إلى جنب مع الفساد الديمقراطي. مشاكل الديمقراطية في موطنها الأصلي يوضح النكسات في أماكن أخرى. الديمقراطية عملت جيداً في القرن العشرين. دول أخرى أرادت تقليد القوة العظمى، لكن عندما تعاظم نفوذ الصين بدأت أمريكا وأوروبا تفقدان جاذبيتهما كنموذج فاعل في نشر الديمقراطية.
الأزمة المالية العالمية كشفت بوضوح صعوبة استمرار الديمقراطيات الممولة بالديون. وفي نفس الوقت، واجهت الديمقراطية في العالم النامي نفس المشاكل التي برزت في العالم الغني. هي أيضاً أفرطت في الإنفاق القصير الأجل بدلاً من الاستثمارات الطويلة المدى. في البرازيل سُمح لعمال القطاع العام بالتقاعد في سن 53 لكن الحكومة لم تنفق الكثير لإيجاد مطار حديث. الهند تدفع الكثير لأعضاء الجماعات لكنها تستثمر القليل في البنية التحتية. الأنظمة السياسية وقعت في فخ جماعات المصالح وجرى إضعافها بفعل العادات المضادة للديمقراطية. في الهند نجد الدعم للديمقراطية يتآكل حتى ضمن النخبة الرأسمالية ذاتها. رجال الأعمال الكبار في الهند يشكون من أن الديمقراطية الفوضوية في الهند تنتج بنية تحتية روتينية بينما نظام الصين ينتج القطارات السريعة والمطارات الحديثة وأنظمة السير المتطورة. كانت الديمقراطية تحت التهديد دائماً.
مؤسسو الديمقراطية الحديثة مثل جيمس ماديسون وجون ستيوارت مل، اعتبرا الديمقراطية آلية فعالة لكنها غير تامة. شيء ما بحاجة ليُصمم بعناية لكي يمكن الاستفادة من الإبداعية الإنسانية مع مراقبة انحراف الإنسان، ومن ثم إبقاءه في نظام يعمل جيداً، بتزويده الدائم بالوقود وتكييفه.
أحد أسباب فشل الديمقراطيات الحديثة هي أنها وضعت الكثير من الاهتمام بالانتخابات والقليل منه في الخصائص الأخرى الضرورية للديمقراطية. سلطة الدولة تحتاج للتوازن، وحقوق الفرد في الكلام والتنظيم يجب أن تكون مضمونة. الديمقراطيات الأكثر نجاحاً هي التي تجنبت إغواء الأكثرية أو الـ majoritarianism وهي الفكرة بأن الفوز بالانتخابات يسمح للغالبية بعمل كل ما ترغب. الهند 1947 والبرازيل 1980 نجحت ديمقراطيتهما لأنهما وضعتا حدوداً لسلطة الحكومة ووفرتا ضمانات لحقوق الأفراد.
إن العولمة والثورة الرقمية جعلتا من معظم الديمقراطيات السائدة موضة قديمة. الديمقراطيات القائمة تحتاج إلى تحديث أنظمتها السياسية لمعالجة المشاكل التي تواجهها في الداخل ولكي تقوّي صورة الديمقراطية في الخارج. بعض الدول قامت سلفاً بهذه العملية. إصلاح تمويل الأحزاب أيضاً مطلوب لكي تُعلن جميع أسماء المتبرعين أمام الجمهور علناً لتقليل تأثير المصالح الخاصة. البرلمان الأوروبي يطلب من أعضاء البرلمان إبراز الإيصالات مع الإنفاق. إن أفضل طريقة لتقييد سلطة المصالح الخاصة هو تقييد عدد المكافآت التي يمكن أن تمنحها الدولة، كما أن أحسن طريقة لمعالجة الاستياء الشعبي تجاه السياسيين هو في تقليل حجم الوعود المعلن عنها. ماديسون يرى «أن الصعوبة الكبرى تكمن في هذا: أنت يجب أولاً أن تمكّن الحكومة من السيطرة على المحكومين، ومن ثم تلزمها في السيطرة على نفسها». فكرة الحكومة المحدودة كانت أيضاً جزءاً مكملاً للديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية. ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 أسسا مبادئ لا تستطيع الدول خرقها حتى لو أرادت الأغلبية ذلك. الفصل بين السلطات جاء بدافع الخوف من الاستبداد. ولكن الآن وخاصة في الغرب، يكمن الخطر الكبير للديمقراطية في الحجم المتزايد للدولة. التوسع المفرط للحكومة يقلل من الحرية ويمنح المزيد من السلطات لجماعات المصالح الخاصة. الخطر الآخر يأتي من أسلوب الحكومة في قطع الوعود التي لا تستطيع إنجازها وهي تتمثل إما بخلق حقوق لا تستطيع دفعها أو بتمويل حروب لا تستطيع الانتصار فيها، مثل حرب المخدرات. كل من الناخبين والحكومة يجب إقناعهم بمزايا القبول بالقيود على ميول الدولة الطبيعية بالتوسع. تفويض السيطرة على السياسة النقدية لبنوك مركزية مستقلة كبح جماح التضخم المتسارع في الثمانينات، والآن ربما حان الوقت لتطبيق نفس مبادئ الحكومة المحدودة على نطاق واسع من السياسات. الديمقراطيات الناضجة حالها حال الناشئة تتطلب فصلاً ملائماً بين السلطات في الحكومات المنتخبة. تستطيع الحكومة وضع كوابح ذاتية بطرق مختلفة. يمكن للحكومة أيضاً إجبار السياسيين لتجديد القوانين كل عشر سنوات. يمكنها الطلب من اللجان غير الحزبية اقتراح اصلاحات طويلة المدى. السويد أنقذت نظام المعاشات التقاعدية من الانهيار عندما اقترحت لجنة مستقلة إجراء إصلاحات براغماتية تتضمن استخدام واسع للتقاعد الخاص وربط التقاعد بسنوات الحياة المتوقعة.
إن تفويض السلطات صعوداً نحو التكنوقراط يجب أن يتوازن مع تفويض السلطة نحو الأسفل – نحو الناس العاديين. العملية هنا تستخدم كلا القوتين العولمة والمحلية بدلاً من محاولة تجاهلهما أو مقاومتهما. مع التوازن الملائم لهذين الاتجاهين فإن نفس القوى التي تهدد الديمقراطية من الأعلى عبر العولمة، ومن الأسفل عبر صعود السلطات الجزئية سوف تعزز الديمقراطية بدلاً من إضعافها.
What’s gone wrong with Democracy, The Economist March 2014
الهوامش
(1) دورة الصعود والهبوط هي عملية من التوسع والتقليص الاقتصادي تحدث بشكل متكرر. هذه الدورة هي من أهم سمات الاقتصاد الرأسمالي الحالي. أثناء فترات الصعود يبدأ الاقتصاد بالنمو، وفرص العمل تصبح متوفرة بكثرة، والسوق يعطي مردوداً عالياً للاستثمارات. وفي فترة الهبوط اللاحق ينكمش الاقتصاد والناس يفقدون وظائفهم بينما المستثمرون يخسرون نقودهم. دورة الصعود والهبوط تختلف من حيث شدتها واستمراريتها. السياسون يكذبون، فهم لا يستطيعون إلغاء هذه الدورات لأنها جزء من طبيعة النظام الرأسمالي ذاته.
(2) عبارة إجماع واشنطن Wasington consensus استعملها لأول مرة الاقتصادي جون وليمسون عام 1989 وتعني حزمة من الإصلاحات لمعالجة مشاكل اقتصاديات الدول النامية. هذه الإصلاحات اقترحها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والخزانة الأمريكية وتتضمن:
1- ضوابط للسياسة المالية لتجنب العجز المالي الكبير قياساً بالناتج المحلي الإجمالي.
2- إصلاح ضريبي مثل توسيع الأساس الضريبي وتبنّي نسب ضريبية معتدلة.
3- سعر الفائدة يتقرر وفقاً للسوق.
4- سعر الصرف يجب أن يكون تنافسياً.
5- تحرير التجارة والاستيراد.
6- تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر القادم إلى الداخل.
7- خصخصة مشاريع الدولة.
8- إعادة النظر بالقوانين مثل إلغاء القوانين التي تمنع الدخول إلى السوق أو تقيّد المنافسة.
9- تأمين حماية قانونية لحقوق الملكية.
هذه السياسات تعرضت للنقد الشديد باعتبار أنها ساهمت في إفقار الدول وتعميق مشاكلها الاجتماعية. البعض يرى أن الولايات المتحدة ذاتها لم تطبّق إجماع واشنطن، حيث استمرت بتفضيل الإنفاق العسكري على التعليم العام والرعاية الصحية، واتّبعت سياسة الحماية التجارية، ولم تشجع الاستثمار الأجنبي.
(3) السلطات الجزئية أو سلطة الجماعات الصغيرة مصطلح اقترحه موسى نعيم في كتابه (نهاية السلطة، 2013) ويشير إلى تآكل السلطة بسبب ثلاث ثورات:
1- ثورة المزيد، الكثير من الناس، مستويات معيشة أفضل، أبجدية وتعليم أفضل.
2- ثورة التنقل: الناس والنقود والأفكار يتنقلون عبر الكوكب.
3- ثورة الذهن بما فيها تغيرات في طرق التفكير والمواقف والطموحات والتوقعات.
يرى نعيم أن السبب الذي يحول دون حل مشكلة التقلّب في المناخ هو أن القادة ليس لديهم السلطة للتصرف سواء داخل بلادهم أو خارجها. إن تآكل السلطات المركزية وانتعاش السلطات الجزئية يعني أن الحكومات تصبح مشلولة لأنها لم تعد لديها سلطة الأغلبية. تأثير السلطات الجزئية سواء ضمن الأحزاب الصغيرة أو في الخلايا داخل تلك الأحزاب يعني أنها تستطيع القول بـ (لا) وهي العملية التي يسميها نعيم بـ (الفيتوكراسي).
ه الإصلاحات اقترحها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والخزانة الأمريكية وتتضمن:
1- ضوابط للسياسة المالية لتجنب العجز المالي الكبير قياساً بالناتج المحلي الإجمالي.
2- إصلاح ضريبي مثل توسيع الأساس الضريبي وتبنّي نسب ضريبية معتدلة.
3- سعر الفائدة يتقرر وفقاً للسوق.
4- سعر الصرف يجب أن يكون تنافسياً.
5- تحرير التجارة والاستيراد.
6- تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر القادم إلى الداخل.
7- خصخصة مشاريع الدولة.
8- إعادة النظر بالقوانين مثل إلغاء القوانين التي تمنع الدخول إلى السوق أو تقيّد المنافسة.
9- تأمين حماية قانونية لحقوق الملكية.
هذه السياسات تعرضت للنقد الشديد باعتبار أنها ساهمت في إفقار الدول وتعميق مشاكلها الاجتماعية. البعض يرى أن الولايات المتحدة ذاتها لم تطبّق إجماع واشنطن، حيث استمرت بتفضيل الإنفاق العسكري على التعليم العام والرعاية الصحية، واتّبعت سياسة الحماية التجارية، ولم تشجع الاستثمار الأجنبي.
(3) السلطات الجزئية أو سلطة الجماعات الصغيرة مصطلح اقترحه موسى نعيم في كتابه (نهاية السلطة، 2013) ويشير إلى تآكل السلطة بسبب ثلاث ثورات:
1- ثورة المزيد، الكثير من الناس، مستويات معيشة أفضل، أبجدية وتعليم أفضل.
2- ثورة التنقل: الناس والنقود والأفكار يتنقلون عبر الكوكب.
3- ثورة الذهن بما فيها تغيرات في طرق التفكير والمواقف والطموحات والتوقعات.
يرى نعيم أن السبب الذي يحول دون حل مشكلة التقلّب في المناخ هو أن القادة ليس لديهم السلطة للتصرف سواء داخل بلادهم أو خارجها. إن تآكل السلطات المركزية وانتعاش السلطات الجزئية يعني أن الحكومات تصبح مشلولة لأنها لم تعد لديها سلطة الأغلبية. تأثير السلطات الجزئية سواء ضمن الأحزاب الصغيرة أو في الخلايا داخل تلك الأحزاب يعني أنها تستطيع القول بـ (لا) وهي العملية التي يسميها نعيم بـ (الفيتوكراسي).
التاريخ: الثلاثاء16-4-2019
رقم العدد : 16946