الملحق الثقافي..إعداد: رشا سلوم:
حين نقف على تخوم الذكرى، ذكرى يوم من أعطونا لون الأرض وزرقة البحر وعمق البادية وشموخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش وهنانو ومريود والأشمر وغير هؤلاء كثيرون، فلا بد أن نقف عند رياع الشعراء الذين عاشوا الجلاء وكتبوه بنبض القلب وشغافه، ومن هؤلاء بدوي الجبل وعمر أبي ريشة وبدر الدين حامد والقروي والأخطل الصغير وكل شعراء الأمة العربية.
من روائع الأدب ما خطه بدوي الجبل نثراً وشعراً.
نثر في اليوم الأول لجلاء المستعمر، إذ أقيم مهرجان احتفالي كبير بساحة الشيخ ضاهر باللاذقية وكان بدوي الجبل خطيباً مفوهاً. خاطب الجميع بقوله: هذا يوم العروبة.. يوم كل سوري. يوم للوطن والحياة والبناء.
أما قصيدته «الجلاء» فهي من عيون الأدب الخالد الذي لا يمكن أن يفنى. أليس هو القائل:
ألزغاريد فقد جنّ الإباء
من صفات الله هذي الكبرياء
بأبي العزلاء في غمرتها
آلة الحرب جراح و دماء
بنت مروان اصطفاها ربّها
لا يشاء الله إلاّ ما تشاء
هي في غسان لا بأس وندى
وهي في الإسلام فتح وبلاء
جمرة الحق سبحان الذي
صاغ هذا الجمر من ظل وماء
الأديم السّمح عطر ورؤى
ربّما أغفى عليه الأنبياء
وعلى كلّ مكان جدّة
تأسر العين و نعمى و رواء
خالف المشهد فيها جاره
فلدات الحسن شتّى غرباء
كلّ حسن بدعة مفردة
ليس بين الحسن والحسن إخاء
تندر الأشباه ممّا اختلفت
صور الحسن وتخفى النظراء
ألورود الحمر ذكرى وهوى
وطيوف من جراح الشّهداء
نفحة الصّبح على غوطتنا
خبر عنهم وأطياب المساء
حملت زغردة العرس لكم
فانتشى الأفق ولم يصح الهواء
أيّها الدنيا ارشفي من كأسنا
إنّ عطر الشام من عطر السماء
شهداء الحقّ في جنّتهم
هزّهم للشام وجد و وفاء
تضحك (الرّبوة) في أحلامهم
هل عن الرّبوة في عدن غناء
كلّما هبّت صبا من (دمّر)
رنّح الجنّة طيب وغناء
خيلاء الحقّ في عدن لكم
يغفر الله لقومي الخيلاء
واعذروا عدناً على غيرتها
إنّها والشام في الحسن سواء
شهداء الحقّ هل يسكركم
في نعيم الله شعر وغناء
فسلوا الله بما قدّمتم
يكشف الله عم السرّ الغطاء
وإذا الفردوس مجلو على
مفرق الشمس فما فيه خفاء
عربيّ الدّار والأهل معاً
والرحيق المشتهى والندماء
حمحمات الخيل في أفيائه
وقرى الضيف وترجيع الحداء
عمر الفردوس ظلا وقرى
وتجلّى للوفود الخلفاء
آل مروان جلال وندى
وبنو العبّاس هدي وضياء
متصافين على نعمائه
ليس في الجنّة إلاّ الأصفياء
سكب الله على أحقادهم
من نديّ الحبّ ما شاؤوا وشاء
وعلى السدّة قحطانية
جلي الملك وقيل: الشعراء
وتغّنيت فمرّت صور
لذّة الأحلام من دنيا الفناء
كلّما سلسلت من ألحانها
مسحوا الدمع على فضل الرّداء
أنت ميراث لنا من عمر
يسأل الديّان عنه الورثاء
*
يا فلسطين هوى مسعر
من ربى الشام ونصر وولاء
وتحيّات الرضى من دجلة
وسلام الله من غار حراء
أين من ثأرك والثأر دم
خالد الفتح وأين الأمراء
اليهود استأسدوا فيك فمن
جرّأ الضعف وأشلى الضعفاء
هان عن شكواي عبدان العصا
أنا أشكو من عهود الحلفاء
وتغنّيت فجنّت طرباً
أريحيات ونعمى وحياء
جنّة الفردوس أنتم أهلها
وسواكم في حماها غرباء
أنا أشعاري من أحسابكم
غرر الأحساب والشعر وضاء
هفت الحور وألقت خمرها
أين رضوان وأين الرقباء
كلّ حوراء على أجفانها
يحلم السّحر ويغفو الاشتهاء
تمّ صفو الدّهر لولا محنة
في فلسطين وبلوى وشقاء
وليس البدوي وحده إنما بدر الدين حامد الذي عاش الفعل الخصب المعطر بدماء الشهداء:
هذا الترابُ دمٌ بالدّمعِ ممتزجٌ
تهبُّ منه على الأجيالِ أنسامُ
لو تنطق الأرضُ قالت: إنني جدَثٌ
فيَّ الميامينُ آسادُ الحمى ناموا
ستٌّ وعشرونَ مرّت كلما فرغتْ
جامٌ من اليأسِ صِرفاً أترعَتْ جامُ
لولا اليقينُ ولولا اللهُ ما صبرتْ
على النّوائبِ في أحداثها الشّامُ
يومُ الجلاءِ هو الدنيا وزينتُها
لنا ابتهاجٌ وللباغين إرغامُ
أما عمر أبو ريشة فهو فنان الكلمة المرهفة، فالوطن عنده هو كل حبة تراب ورمل معطرة بدماء الشهداء:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حفنة رمل فوقها
لم تعطر بدما حر أبيّ
درج البغي عليها حقبة
وهو ى دون بلوغ الأرب
وارتمى كبر الليالي دونها
لين الناب كليل المخلب
لا يموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب
من هنا شق الهدى أكمامه
وتهادى موكباً في موكب
وأتى الدنيا فرقت طرباً
وانتشت من عبقه المنسكب
وحين يهب نسيم الربيع يحمل معه حلم شفيق جبري:
حُلم على جنبات الشـام أَم عيد؟
لا الهمُّ همٌّ ولا التسهيد تسهيدُ
أتكذبُ العينُ والرايـاتُ خافقةٌ؟
أَمْ تكذب الأذن، والدّنيا أغاريدُ؟
كـأَنَّ كلَّ فـؤادٍ في جلائِهمُ
نشوان، قد لعبت فيه العـناقيدُ
ملء العيون دمـوع من هنـــاءتها
فالدّمع درٌّ على الخـدين منضودُ
على النواقيـس أَنغامٌ مُسبِّحة
وفي المـآذن تسبيحٌ وتحميدُ
لو ينشدُ الدّهر في أَفراحنا ملأَت
جوانب الدّهر في البشرى الأَناشــيدُ
التاريخ: الثلاثاء16-4-2019
رقم العدد : 16946