الملحق الثقافي..د. ثائر زين الدين
لماذا ترتاحُ النفس لسماعِ الشعر، أكثر مما تفعل لسماع نثر جميلٍ قد لا يقل عنه جودة؟ لماذا يخرجُ الشعرُ الإنسان من حالة الركود والهمود، إلى حالة الانتباه، ومن الانقباض والانغلاق إلى الارتياح والانفتاح، ومن التلبثِ في الوهاد إلى التحليق فوق القمم؟
هي أسئلةً كثيرة نطرحها دائماً وقد لا نجد لها إجابات شافية؛ فبعضنا يردُ كل ما سبق إلى امتلاك الشعر أوزاناً وقوافي تأتي الجمل جراءها موقعةً تلتذُ الأذن ثم النفس لسماعها، وبعضنا يردُ الأمر إلى خيال الشاعر المحلق الذي يبدع صوراً شائقة، وأجواء لا قبل للناثر بها، وقد يرى نفرٌ منا أن التوتر العاطفي الذي يحمله الشعر غالباً ومخاطبته وجدان المتلقي مباشرةً هما السببان الرئيسان لما ذكرناه.
وقد يقول قائلٌ إننا كبشر نرتاحُ للشعر الذي يوافقُ أهواءنا وطبائعنا وليس للشعر كله. فالأديب يرتبط بقول الشاعر:
ولي قلمٌ في أنملي إن هززتهُ
فما ضرني أن لا أهزَ المهندا
بينما يفرحُ الفارس أو المقاتل لقول ابن عمار:
السيفُ أصدقُ من زيادٍ خطبةً
في الحرب إن كانت يمينك منبرا
أكثر مما يفعلُ الكاتب الذي لا يعرفُ السيف والرمحَ إلا في المتاحف. وبغض النظر عن أسباب ارتياحنا وغبطتنا وحبورنا عند استماعنا للشعر مما يحتاجُ دراسةً عميقةً لبيانهِ! فإن كتبَ الأدب تغص بحوادث جميلة وغريبة تبين مدى تأثر العربي بالشعرِ وطربهِ بهِ سواء كان من العامةِ أو من الملوك ومن تلكَ القصص – أن مروان بن حفصة دخلَ على الخليفة المهدي وأنشدهُ قصيدته التي يقول فيها:
«طرقتكَ زائرةٌ فحيي خيالها»
فأخذ المهدي لطربه بها يزحفُ كلما أمعن الشاعرُ في الإنشادُ حتى صار على البساط. ومن ذلك أن أبا تمام أنشدَ قصيدته اللامية المعروفة في مجلس الحسن بن رجاء فلما بلغَ قولهُ:
لا تنكري عطلَ الكريم من الغنى
فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
وتنظري حيثُ الركاب ينصها
محيي القريضِ إلى مميت المال
هب الحسن واقفاً على رجليه وقالَ لأبي تمام: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم. وكم شاعر أخذه الطرب بشعر غيره فأخرجهُ عن الروية والوقار؛ ها هو ذا العباسُ بن الأحنف يستمعُ إلى قصيدة ابن الدمينة التي يقول فيها:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجتَ من نجدٍ
فقد زادني مسراكَ وجدٍ على وجدٍ
فيحفظها ويهرع إلى إبراهيم الموصلي، فينشدها أمامهُ ويترنح ساعةً ليقول له بعدها:
«أنطحُ العامود برأسي من حسن هذا الشعر!».
أما بشار بن برد فقد كان حاضراً في مجلس المهدي عندما أنشدَ أبو العتاهيه قصيدته التي هنأ المهدي فيها بالخلافة، فلما وصلَ إلى قوله:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجررُ أذيالها
فلم تكو تصلحُ إلا له
ولم يكو يصلحُ إلا لها
تملكَ بشارَ الطربُ فقال لمن قربه: «أترى الخليفةَ لم يطر من فراشهِ طرباً لما يأتي بهِ هذا الكوفي؟!».
وقد يعجبُ الرجلُ بالشعر فيدفعُ نصفَ مالهِ لقاء ذلك كما حدثَ مع المعتصم بن صمادح، حينَ وفد عليهِ جعفر بن محمد بن شرف، وأنشدهُ قصيدةً شكا فيها اعتداء بعض العمال على مزرعة له، فلما بلغَ قوله:
لم يبقَ للجور في أيامهم أثر
إلا الذي في عيون الغيد من حورٍ
قال لهُ المعتصم: كم في القرية التي تزرع فيها من بيتٍ؟ قال جعفر: خمسونَ بيتاً، قالَ: إني أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد.
وأريد أن أوكد أن كل ما رأيناه من فرح السامعين بالشعر، وما قدمته كتبُ الأدب، كان ينطلقُ أولاً من براعة الشعر وجودته وجماله وإلا فما معنى أن يصرحَ الرجلُ بإعجابه بشعرٍ في مدحِ خصومهِ وأعدائه؟! كما فعلَ عضد الدولة، الذي قتل أبا طاهر محمد بن بقية صلباً، فرثاهُ أبو الحسن الأبيار بقصيدةٍ مطلعها:
علو في الحياةِ وفي الممات
لحقٌ تلك إحدى المعجزات
وكتبها ورماها في شوارع بغداد، فلما بلغت عضد الدولة تمنى، لشدةِ إعجابهِ بها، أن يكون هو المصلوب والمرثي بأبياتها.
التاريخ: الثلاثاء16-4-2019
رقم العدد : 16946