لوحات الفنان عبد الله أسعد الجديدة، التي قدمها في معرضه الأخير بصالة عشتار، زاخرة بمشاهدها الواقعية، الآتية من معطيات شاعرية العيش والإقامة والذاكرة الطفولية، والبيوت القديمة والطبيعة المحلية وغيرها. والانفتاح على ألوان وأضواء وأنوار الطبيعة أثمر لوحات تحتفظ بخصوصية الأمكنة القديمة، التي تبرز كثروة جمالية وحضارية.
تاريخية المكان
هكذا تبدو مائياته في مظاهرها وإيماءاتها الواقعية، منفتحة على الأجواء اللونية المحلية بوهجها وبريقها الضوئي وشفافيتها وشاعريتها، وهو يرسم بمنطق عقلاني، باحثاً عن أناقة الشكل وأماكن الضوء، للتعبير عن شاعرية الإقامة في الطبيعة المحلية، فالحنين إلى الطبيعة هو جزء أساسي في لوحاته، نرى أيضاً الأماكن القديمة تطل وبقوة في عبر استعادة الأشكال المترسخة في الذاكرة والوجدان. بمعنى أنه يقدم طروحات واقعية حديثة، ويتفاعل مع تاريخية المكان. وهكذا كشفت لوحاته عن وجهها المبتكر والجديد وأبرزت علاقتها بالتراث المعماري وبالحداثة الواقعية، وبالتالي بهموم البحث عن خصوصية تشكيلية متميزة ومتطورة في اللوحة الواقعية، التي تمزج مفردات الماضي بالواقع وبالعفوية اللونية . بمعنى أنه يتفاعل مع تاريخية المكان عبر التأكيد على المساحات واللمسات اللونية المتحررة والمباشرة, فاللون يستشف كلون متلاشي وشاعري وضبابي يعكس تقلبات المناخ اللوني والاحاسيس ويحمل وهج الأضواء المحلية وأنعكاساتها على التكاوين المعمارية المرسومة.
أناقة ونظافة لونيةهكذا يظهر اهتمامه المتزايد بتجسيد حالات من المنظور الحامل مدى ومناخ الفضاء الواقعي الرحب، وتساعده خبرته التقنية في الألوان المائية،على مضاعفة التأثير المشهدي المقتطف من حضور تفاصيل أشكال الواقع، ولقد كان يبحث ومنذ بدايات انطلاقته الفنية، عن حل لتجليات الرجوع إلى ينابيع الواقعية، دون أن يخون مشاعره الذاتية، فهو يختبر الحالات ليصوغ باللمسة اللونية الواعية والهادئة عناصر الأشكال من خلال البحث عن جوهر العلاقة القائمة بين شاعرية النور المحلي، وإيقاعات عفوية اللمسة المدروسة والمتوازنة.
لقد وجد عبد الله أسعد في اللون المائي، مادة أساسية تفسح له المجالات الشاسعة لرحلة الكشف التلقائي عن الأفكار التشكيلية، حيث يزاوج بين طواعية اليد وتوازن التكوين، متجهاً نحو السكون والحيوية والحركة. وهو في ذلك يتجاوز الرؤية الواقعية التقليدية، في خطوات تجسيد الإيقاع الشاعري الشفاف، الذي يحفظ في بعض لوحاته خصوصيات التاريخ المحلي المترسخ في الذاكرة والقلب معاً.
فمن خلال متابعة لوحاته التي يقدمها في المعارض الخاصة والمشتركة، يمكننا التماس صياغة تصويرية واقعية تعكس نزعاته وهواجسه العقلانية، التي تعطي الأولوية للمسة اللونية الهادئة والواعية والبعيدة كل البعد عن اللغة التجريدية الانفعالية والعبثية.
ومن خلال هذه الرقابة العقلانية المنضبطة والمركزة، يظهر هواجس الارتباط بالمشهد المعماري والتاريخي، فالمهم بالنسبة إليه إعادة الاعتبار للأوابد والبيوت والأمكنة القديمة، إضافة لمواضيع الطبيعة في محاولة للتواصل مع مناخها اللوني الخاص المشرق بالضوء الساطع.
لمسات ماهرة واثقة
واللافت في أعماله تلك البراعة في وضع اللمسات الماهرة الواثقة وفي التعامل مع العناصر والأشكال والتي يبحث من خلالها عن جماليات المشهد في الأبعاد الثلاثة. فهو ينحاز إلى التعبير الهادئ وإلى المشهدية البصرية الملطفة، ويبوح بما في أعماقه من مشاعر وأحاسيس، فأشكاله رغم واقعيتها تبدو مرتبطة بشخصيته لأنها تتأسس على مناخات لونية واحدة بعيدة عن العنف والصراخ والاغتراب التشكيلي.
وهذا يعني أنه يتمسك بهاجس العودة إلى الواقعية وإلى الطبيعة، إنها عودة إلى مثاليات لوحة المنظر ولوحة القرية ولوحة الماضي.
فهو فنان واقعي يترصد عناصر المشهد بمنهج شاعري شفاف، واللون يتخذ في لوحاته طابعاً غنائياً من ناحية الرسم بلمسات عفوية متتابعة تتلاءم مع أجواء اللوحة الحديثة. هكذا أخذ يحس عبر تنويعات التجربة بأهمية اللمسة اللونية العفوية، التي تملص مواضيع الطبيعة والعناصر المعمارية من القوالب الكلاسيكية المثالية، وتمنحها شيئاً من الغنائية والأنطباع والتأنق والانسجام اللوني والشكلي والخطي.
ولوحاته تتفاوت بين الصفاء اللوني والتبقيع الشاعري، عبر تداخل عفوي في تركيب السطوح والعناصر وبطريقة أقرب إلى الجو اللوني الشاعري.
فالمتابع لأعماله يكتشف قدرته على التقاط المشهد الواقعي، ودمجه في إيقاعات لونية جانحة نحو الشفافية والشاعرية، ليصل في النهاية إلى النقاء الهندسي، الذي يميز عمارات المدن القديمة.
فالأجواء الشاعرية الواقعية، المثبتة في تفاصيل المشهد، هي حالة إيمائية تقتنص الإشارات وتدمج التفاصيل الحميمية للأمكنة القديمة، لتعبر في النهاية عن قدرة التعاطي مع الموضوعات التراثية على الايقاظ والتجدد.
فهو يرسم الواقع المهدد بالغياب أو بالزوال، وسط رواج الاستعراض المجاني، ويطل عبر لوحاته المائية كرسام عقلاني يعرف كيف يوازن ويعيد الاعتبار إلى الرسم الواقعي الدقيق. وفي هذا المعرض يعتمد الحركة اللونية التلقائية واللمسة العفوية كمدخل للكشف عن المشهد (اختيار عناصر التكوين للوحة فنية) والشعور (التفاعل العفوي مع الإشعاعات اللونية) القادمة من نورانية المنظر المحلي الذي تعرفه الطبيعة السورية المشرعة على الوهج والحركة وألوان الشمس.
هكذا يسعى وراء اللون الطبيعي المحلي، لصياغة فصول مناظره وتكاوينه التعبيرية، ولقد كان ولا يزال يسعى لتحسس المادة اللونية العفوية، التي تحيط أو تسكن طبيعة الوجود. كما لو أن اللون هو طاقة ضوئية أو شمسية تتصاعد من البقعة اللونية، التي تعزف حركة الأشكال والأشياء والأماكن والمشاهد. بألوانها المتحررة التي توازن بين اللمسة والأخرى بحركات مباشرة تلتقط لحظات متتابعة ومستمرة.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الخميس 18-4-2019
رقم العدد : 16960

السابق
التالي