يجدّدُ في كل عام شعبنا ذاكرته الوطنية ويحتفل بالمنارات التي أضاءت على أعواد المشانق في دمشق، وكذلك في بيروت الظلام العثماني الذي ران على العرب والعروبة قروناً أربعة من الزمان توقفت فيها حركة العقل العربي عن الإبداع ومجاراة عصور التطور والحضارة كما كانت تغذّ السير فيه أمم الأرض، ولا سيما الأمروأوروبية منها. فالعرب قبل دخول السلطان سليم العثماني 1516م والقضاء على دولة المماليك كانوا يرزحون تحت وطأة ما بعد هولاكو وتدمير حضارتهم في الشام والعراق منذ العام 1258م. ومع أن العثمانيين قد نقلوا الخلافة إلى بغداد، واتخذوا من الغطاء الإسلامي ذريعة لحكم الشعب العربي لكنهم لم يتقدّموا بالإسلام، ولا بالمسلمين إلى مصاف التطور الإنساني الذي كانت تشهده البشرية؛ والعكس كان الحال عليه إذ أدخلوا العروبة في ليل من الجهل والتجهيل فلا مدارس ولا علوم، ولا صناعة بل تجميد خطير لكافة المشاريع الإنسانية، وإلحاق بالإكراه للشعب الواقع تحت سلطتهم كي لا يتعدى تفكيره قبور التاريخ، ومجاري الخرافة، وتغييب العقل.
وحين بدأ العرب يتفاعلون مع حركة الأنوار الأوروبية، ويدركون الرابطة الشرقية ومدلولاتها، وكذلك الرابطة العثمانية، ومن ثم الرابطة الإسلامية من دون البعد التنويري فيها، وانتقلوا بعد حملة محمد علي باشا، وابنه إبراهيم إلى التفكير بترك الرابطة العثمانية، والعمل على استحضار مشروع للنهضة العربية يقوم على التحول من الرابطة العثمانية في ظل مبدأ الخلافة العثمانية، إلى الرابطة الإسلامية، ثم العروبية المتصلة بالإسلام في ظل مبدأ اللامركزية ومبدأ خلافة عربية.
نعم كل هذه التحولات التي جرت على الحالة العربية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتشكلت على أثرها الجمعيات النهضوية، وعقدت المؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه، وواجهت سخط السلاطين العثمانيين حتى انتهى الأمر إلى مقتل السلطان عبد الحميد الثاني وتسنّم الطورانية المتعصبة زمام السلطنة العثمانية وطرحها لشعار تتريك الشعوب الواقعة تحت نير الحكم العثماني.
وبهذا الانتقال في السلطنة العثمانية إلى المزيد من الظلم والتعسف وتجنيد الشباب العربي بالإرغام في حروب العثمانيين في البلقان وغيرها، واشتداد وطأة الضرائب ونهب أرزاق المواطنين الذين لم يكن لهم أي حقوق في ظل حكم سلاطين بني عثمان ولا سيما في العهد الطوراني كل ذلك قد نبّه العرب وخاصة حين استُهدفت اللغة العربية وهي لغة القرآن الكريم فشرعت الجمعيات العربية تتشكّل من أجل الانتقال إلى فرض الكيانية العربية، وبدأت مشاعر اليقظة العربية تتبلور على يد الكتاب والمثقفين العرب، ومنذ أن شعر العثمانيون بحراك العرب للاستقلال عن الدولة العليّة، وصار الفكر القومي العربي يأخذ طريقه إلى الوعي العربي الاستقلالي الذي لم يتوجه فقط نحو الاستقلال العربي من النير العثماني بمقدار ما صار مدار التفكير العروبي يطرح مسألة الوحدة العربية بعد الخلاص من العثمانيين لكون العرب لهم مشروع قومي بالوصول إلى الدولة القومية لهم أي الدولة الأمة أسوة بالدول الأوروبية بعد ثورة الأنوار. وبناء عليه فقد ازداد تعسّف العثمانيين، وقاموا بمطاردة الوطنيين السوريين الذين آمنوا بالاستقلال عن الباب العالي، وانتموا إلى أمتهم العربية لكي يمارسوا حق تقرير المصير بإرادتهم الوطنية الخالصة وكانت الدفعة الأولى التي قُدِّمتْ إلى المشانق في دمشق في 14 آذار 1911م بأمر من سامي باشا الفاروقي قد ضمّت (ذوقان الأطرش والد سلطان الأطرش، وهزاع عز الدين، ومزيد عامر، ويحيى عامر، ومحمد المغوّش، وشاهين القلعاني).
وحين اشتدت وتائر النضال الوطني التحرري عند النهضويين العرب من جماعة مؤتمر باريس 1913م، وغيرهم من أعضاء الجمعيات العربية وكان والي دمشق قد أصبح جمال باشا السفاح حين أمر بتعليق المشانق لرجال النهضة في سورية ولبنان في عامي 1915 و 1916م. ومنذ أن تم شنق النهضويين العرب رجال اليقظة العربية انتفضت الروح العربية ضد العثمانيين وفي الثورة عليهم عام 1916م في ظل الحرب العالمية الأولى تمكّن السوريون من تحرير بلدهم حيث طردوا ولاة بني عثمان ورفعوا العلم العربي علم الثورة العربية على دار الحكومة في دمشق. وبدأ عهد الدولة العربية الوليدة حين حلم السوريون بأن يقيموا المملكة العربية والإعلان عنها في 8 آذار 1920م لكن إنذار غورو لم يترك السوريين يصلون إلى حلمهم حتى شرعت السياسة الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الأولى 1914-1918م بتطبيق مقررات عصبة الأمم في الانتداب الأوروبي على البلدان العربية حيث تم تقسيم المشرق العربي بين الاستعمارين: الفرنسي والإنكليزي استناداً إلى معاهدة سايكس-بيكو لتمنع قيام دولة الاستقلال العربي والوحدة، وكذلك جاء وعد بلفور عام 1917م لكي يعطي أرض فلسطين العربية للصهيونية من أجل إقامة وطن قومي لليهود فيها. وهنا دخل الكفاح العربي التحرري في معاركه ضد الفرنسيين في سورية ولبنان، وضد الإنكليز في العراق. وما نستلهمه في ذكرى شهداء السادس من أيار 1916م يعيدنا إلى الحقيقة الأولى أن الدولة القومية للعرب ممنوعة منذ مؤتمر كامبل بنرمان في لندن عام 1905م لكون هذه الدولة ستكون مانعة للأوروبيين من تحقيق استعمارهم للعرب. ومانعة أيضاً من قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
والحقيقة الثانية أن النضال العربي قد بدأ يشهد حالة الفئة الحاكمة المتعاونة مع الاستعمار ضد المصالح الوطنية والقومية لبلادها، وأمتها وما زلنا في هذا الحال إلى اليوم. والثالثة أن الوجود الصهيوني على أرض فلسطين المدعوم من الغرب المتصهين لن يترك أيّاً من الأقطار المجاورة لفلسطين تبني القوة المؤثرة على الأمن الاستراتيجي لكيان العدوان ولا سيما سورية، وقد رأينا أن سورية دولةً وشعباً مستهدفة دوماً منذ عام 1948م وقيام الكيان العنصري. والحقيقة الرابعة أن النظام الرسمي العربي بمؤسساته وظّفت له أدوات أعرابية حتى لا يأخذ أيَّ دور تحرري سيادي بل يُبقى الدولة الوطنية العربية تحت السيطرة فالعرب مرجعهم الاستعمار الغربي، ومشروعهم العروبي مرفوض، ومع ذلك نجد الكثيرين منهم مستسلمين لهذه المرجعيات، وعاملين على هدم مؤسسة القرار العربي، ومقاومة أي دولة تصر على القرار العربي المستقل والسيادي، ومن هنا نتفهم الأدوار الاستعمارية المتصهينة في الحرب على سورية ولا سيما الحرب الإرهابية التكفيرية فسورية بوابة العرب نحو كل نصر، وضد كل غاصب، وسيبقى السادس من أيار في ذاكرة الأجيال العربية حتى يتم تحرير الوطن العربي من كل غاصب دخيل، أو عميل مأجور.
بقلم د: فايز عز الدين
التاريخ: الأربعاء 8-5-2019
رقم العدد : 16972