استطاعت «الأجوبة المسكتة» أن تحقق حضوراً فاعلاً في حقول العربية عامة، والحقلين الأدبي والبلاغي خاصة، لأهميتها التي تكمن في أنها تمثل لغة الشعب كله بطبقاته وفئاته ومستوياته الفكرية والثقافية، ويستشف من ورائها إشارات مضيئة لضروب التفكير والتعبير لدى أجدادنا وصور حياتهم المعيشية اليومية.
وهي بعد ذلك ترفد الجانب التطبيقي التحليلي في البلاغة بالشواهد المتنوعة من منثور كلام العرب ليكون في متناول يد الدارس من جهة، وتسلية القارىء ومؤانسته وإمتاعه من جهة أخرى.
وفي تعريف الأجوبة المسكتة يقال هي مجموعة من الأجوبة الحاذقة الذكية، يرد بها المسؤول على من سأله ليفحمه بالجواب المسكت
وكتاب «الأجوبة المسكتة»، فن الإقناع والإمتاع للدكتورة منيرة محمد فاعور يتناول الأجوبة المسكتة من جانبين، الأول نظري درست فيه المؤلفة الأجوبة من حيث تعريفها، موضوعاتها، غاياتها، مصنفاتها، خصائصها وقيمها.
والجانب الثاني تطبيقي بلاغي، فلأن قوة الجواب تتوقف على مدى إسكات السائل وإفحامه، كان لابد أن تعتمد هذه الأجوبة على حيز كبير من التوظيف البلاغي الأمثل لهذه الردود.
والكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب للعام 2019 عبارة عن دراسة بلاغية قيمة تناولت فيها المؤلفة نصوصاً من الأجوبة المسكتة التي جمعها ابن أبي عون المتوفى سنة 322هـ وكشفت ما انطوت عليه من وجوه الحسن والذكاء والإيجاز والبديهة الحاضرة النابهة.
أبانت هذه الدراسة أن الأجوبة المسكتة ثروة متنوعة الفنون والأفنان، شملت مناحي الحياة كلها، فعكست أنماطا من التعبير والتفكير، وكانت سجلا حافلا بالقيم والأدب والفلسفة والسياسة والتاريخ والعبر.
وتعد هذه الدراسة دراسة تطبيقية وقفت على ما في نصوص الأجوبة من وجوه محكمة وخصائص تميزها ومن هذه الخصائص «السرعة في الرد والارتجال، الإصابة في المعنى، الإيجاز في التعبير، حسن البيان، إفحام السائل وإسكاته، ومن ثم الوضوح والغياب النسبي للتصوير».
وتعد «الأجوبة المسكتة» مرآة صادقة للحياة الإنسانية، فهي خير معبر عن قيم الأولين ومعتقداتهم وحضورهم السياسي والفكري والاجتماعي والتربوي، وسجل دقيق للأحوال السائدة في العصر الذي قيلت فيه، كما تمثل عنصراً من عناصر التثقيف المهمة للناشئة وللكبار في الآن نفسه.
ومن الأمثلة على هذه الأجوبة «أن رجلا اشترى جارية طريفة فسمعته يقول: اللهم ارزقني من الحور العين، قالت هي: اللهم ارزقني فتى صفته كذا وكذا، فقال لها ما هذا، قالت فاسكت حتى نسكت».
ومن ذلك «قيل لأحدب أيما أحب إليك، أن يكون الناس كلهم حدبا أو تذهب حدبتك، قال: أن يكون الناس كلهم حدبا، قيل ولم؟ قال: لأنظر إليهم بالعين التي نظروا بها إلي».
إن مرارة الحياة التي احتساها المستضعفون في ظل عيش زاول الطغاة والمتجبرون فيه أقسى أنواع الأذى والجبروت دفعتهم للبحث عن متنفس يعبرون من خلاله عن مشاعرهم، آمالهم وآلامهم.
ومن يتابع الأجوبة المسكتة يجدها وقد حققت قيما بعينها في شتى مجالات الحياة، ففي المجال السياسي والتاريخي أبرزت ملامح زمن أصحابها، وأظهرت ما كان المجتمع يمر به من أحوال سياسية كعلاقة الحاكم بالمحكوم، وسمات بعض الشخصيات التي تولت الحكم.
وكان لها وظيفة اجتماعية بالغة الأثر، إذ تفهم بها أوضاع المجتمع التي كانت سائدة بين أفراده والروابط التي تحكمهم وطبيعة العلاقات الأسرية، وهي تنبىء عن كثير من ألوان القيم والمعتقدات والعيوب، وتكشف عما بين الأفراد من علاقات.
وكانت الأجوبة المسكتة سبيلا من سبل التأديب والتربية والتعليم، وتعزيز الحضور اللغوي لدى المتلقي، وهي إلى جانب ذلك أثبتت احتفاءها بالفكاهة التي حققت كثيرا من الترويح عن النفس والإضحاك، حاملة أحيانا بين طياتها إيحاءات سياسية أو اجتماعية يعيشها الفرد والمجتمع.
فاتن أحمد دعبول
التاريخ: الأربعاء 15-5-2019
الرقم: 16978