قصيدتها صرخةٌ، هي صرخةُ الأوطان في الشِّعر المقاوم.. هي اشتعالٌ تتلظى فيه المفردات، وتحرق كلّ خائنٍ وذليل وعدوّ وظالم.. هي «هذيانٌ في حمى من الحب».. حبُّ جنوبي وآخر سوري، وحبُّ دمشق التي عانقتها بالشعرِ تارةً، وأخرى بلهفةٍ تتسارعُ لديها مع نبضاتِ القلب.
إنها الشاعرة اللبنانية المقاومة «أمل طنانة» التي ولأنها عاشت وأسرتها عمراً من الحبِّ في قلبِ الوطن السوري. أيضاً، لأنها حملت هذا الوطن في روحها يوم عادت إلى وطنها، وكان جنوبهُ لايزال يعاني من احتلال العدو الصهيوني. لأجلِ ذلك، ولأنها آلت على عشقها إلا أن ينبض بالقصيدة-القضية. قضية الإنسان والكرامة والمقاومة الأبية. لأجل هذا حاورناها وسألناها:
– «أنا من ترابٍ طوى جنَّةً/ بأوردةٍ لم تزلْ تنزفُ/ وترسمُ أقدارها عنوةً، وفنانُها عاشقٌ مدنفُ». إنه قولكِ، فهلاَّ عرّفتنا بالبدايات التي أطلقتكِ صوتاً هو صرخةُ نبضكِ؟
— كانت بداياتي في ريف دمشق السّاحر، وفي مدينة التّلّ الّتي كانت قرية صغيرة، أذكرها في طفولتي، ببيوتها الصّغيرة، وفلاّحيها الكادحين، وأذكر صنوبراتها وحوراتها ونهرها وثلج شتائها، كما أذكر ثغاء خرافها، وهينمات نسيمها ودفء ربيعها وشدو عصافيرها..
كانت الطّبيعة السّاحرة في بداية وعيي، مرافقةً لاعتزازِ عائلتي بقائدٍ عظيمٍ اسمه «حافظ الأسد»، بثّ الشّبابَ في أرواحنا الهرمة، وقاد أولى انتصاراتِ العربِ في حرب تشرين التحريرية، فكانت صورتُه في صدر بيتنا مصدرَ عاطفةٍ غريبةٍ شحنت روحي الطّفلة بمعاني العزّة والكبرياء.
كنت خجولة بعض الشّيء، ولكن حين تعلّمت القراءة والكتابة، اختبأتُ خلف قلمي، وأطلقت لمشاعري أجنحة الخيال.
– شاعرةُ المقاومة هو اللقب الذي أطلقَ عليكِ. ما سبب ندرة الشاعرات المقاومات في وطننا، وفي وقتٍ ماأشدُّ مانحتاج فيه إلى أصواتهنَّ؟.
— لا شيء يُخجلُني كما يُخجلُني هذا اللّقب، فكلّ ما امتلكته وما يمكن أن أمتلكه من حبرٍ في حياتي، هو أقلّ قيمةً من قطرةِ دمٍ سالت من وريد مقاوم، أو جنديّ تصدّى للمعتدين على أرض الكرامة. ربّما أُطلقَ عليّ هذا اللّقب لأنّ مآثر المقاومة الباسلة في بلادي أسرت قلبي، ولوّنت قصائدي، وقد آثرتُها على أيّ موضوع من مواضيع الشّعر لأنّها برأيي، تعطي الشّعر قيمته الإنسانيّة، فلا قيمة لنشيدٍ لا ينتمي إلى دماء الشّهداء، ولا قيمة لشاعر لا يتوكّأُ على عظمة المقاومة في ابتكارِ قصيدته الّتي لم يقلها أحدٌ من قبل.
لا أوافق على ندرة الشّاعرات المقاومات، ففي وطننا أصواتٌ نسائيّة مميّزة منحتْ حياتَها لخدمة المقاومة ودعم نضالاتها.
– غالبيةُ قصائدكِ بنبضٍ قوي ومدى لاينتهي. أهو نبضُ القصيدة-القضية، أمْ نبضُ الدمِّ المقاوم؟.
— إنّها روائع المقاومة، وشيء من الأمل الّذي انبجس من كهوفِ العتمة التّليدة بحبال الضّوء والانتصاراتِ، وقد ابتسم لنا التّاريخ أخيرًا ببطولات لم نألفها منذ زمنٍ بعيدٍ..
– تقولين في ديوانك «هذيان في حمى الحب»: منذُ الطفولةِ يغدو العمرُ في لغتي/ تبلُّ لثغَتُهُ بالحرفِ أحلامُ/ وكنتُ إن نزفتْ بالجرحِ أوردتي/ ماصحتُ أمي، ولكنْ صحتُ: ياشامُ». ماسرُّ كل هذا العشق لدمشق؟.
— هي مشيئةُ اللهِ تعالى، أن أولدَ في دمشق وفي فمي ملعقةٌ من العشقِ الأصيل، فقد شغفتني دمشقُ حبًّا قبلَ أن أفهمَ معنى الحبّ، وتعلّقتُ بها قبل أن أدرك معنى التّعلّق، ولا يروي غليلي سوى أن أرى روحي ممتزجةً بترابها المقدّس.
حينَ بكتْ دمشق سالَ الدّمعُ من عيني، وحينَ جُرحتْ سالَ الدّم من قلبي, وتسألينَ عن السّرّ؟؟ لا أغالي.. إنّ عشقَ الشّامِ نوعٌ من الاصطفاء الإلهي!.
– تقولين أيضاً: «ياأمَّةَ العَرّبْ! ياموتَةَ الغَضب!/ لاتُغلِقوا فَمي! لاتَحبسوا دَمي!/ لم يبقَ للفضاءِ غيرُ الريحِ والعويل/ أوَّاهُ ياضمير ياضرير ياضليل». برأيكِ، كيفَ يصحو ويرتدُّ عن ضلاله؟
— بالمقاومة وحدها، يستيقظ الضّمير من موته وتُبعثُ الكرامة من أجداثها. بالمقاومة وحدها، يرتدُّ عن عماهُ وضلاله.. لا شيء غير المقاومة ينير الحياة ويزيح عتمة الذّلّ الطّويل، ويوقد قناديل الانتصارات.
– في ظلِّ غيابِ المثقف عما نعيشه من جهلٍ وحقدٍ وتكفيرٍ ظلامي.. من ترينه قادراً على إعادتنا إلى كلِّ جميلٍ وإنساني؟.
—أرى أنّ الموقف المقاوم العنيد أفصح من أقلام المثقّفين والمستثقفين، كلّ الأفواه خرساء أمام فصاحة أحذية المقاومين وهي تقرع دروبَ الصّبرِ والتّضحيات وتصنع الأمجاد..
– «نحنُ في المحرابْ/أكفانُنا أثوابْ/ صلاتُنا مقاومة/ونبضُنا مقاومة/ونرفضُ السَّلامَ في طقوسِكم/ ونقرفُ البريقَ من فلوسِكمْ/ ونأكلُ الترابْ». أهي صلاةُ المقاوم، أم رصاصة لعدوٍ وخائن وظالمْ؟.
— هي الاثنانِ معاً.. كلّ لحظة تتّصل بها روح المقاوم بخالقهِ العظيم هي رصاصةٌ في صدر العدوّ والظّالم والخائن، المقاومة هي الطّريق الوحيد إلى النّصر، والتّاريخ يثبت صدق ذلك يوماً بعد يومٍ.
-أخيراً، الشِّعرُ رسالة إنسانية-وطنية. ماذا تقولين لمن لا يُريد أن تصلهُ أو لمن لايقرأ إلا رسالة أناهُ العليلة والمسكونة بالعدوانية؟.
–أقول لذلك المسكين: رحمةُ الله عليك! هؤلاء هم الموتى الحقيقيّونَ، والجثث المتعفّنة الّتي حُرمتْ من رِفعةِ النّصر، وقداسةِ الهمّ الكبير..
هفاف ميهوب
التاريخ: الثلاثاء 21-5-2019
الرقم: 16982