لا تزال سورية محور الصراع الإقليمي، والدولي نظراً لموقعها، والواقع الذي تعيش فيه، وتتمسّك به. فالمجال السوري الحيوي قد جعل من القضايا المركزية للعرب ثوابت في السياسة لا يمكن النظر إليها إلا بما يتوافق مع المصالح القومية العليا للأمة العربية. ومع متطلبات تواصلها من أجل حاضر أقوى، ومستقبل مأمون. ومن المعروف عبر تاريخ العروبة منذ ما بعد الاستقلالات العربية من الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية 1945م، وكيف عطل الأوروبيون ومعهم أميركا القادمة -آنئذٍ- إلى الشريك الندي في قيادة النظام الدولي ثنائي القطبية نعم كيف عطلوا حركة التقدم العربية بمساعدة عصابات الصهاينة على احتلال فلسطين لإقامة الكيان العنصري الإحلالي على أرضها. ومنذ الاجتماع الأول للجامعة العربية وتأسيسها في العام 1945م، وانعقاد مؤتمر القمة العربية الأول في أنشاص عام 1946م، توافق العرب على أن قضية فلسطين هي القضية المركزية، وأن الخطر الصهيوني هو خطر وجودي على حاضر العرب ومستقبلهم، فإذا كان الحال كذلك فالصراع العربي ضد الصهيونية وكيانها العنصري الاستيطاني هو صراع وجود، وليس نزاع حدود.
ومع الأسف فإن العرب الذين توافقوا عبر الجامعة، ومؤسسة القمة لم يضعوا ما توافقوا عليه موضع التنفيذ باعتبار أن مرجعية سايكس- بيكو بقيت صاحبة القرار في النظام العربي ما جعل الصهيونية تنفّذ احتلال فلسطين، وبتواطؤ مع العديد من الملوك والزعماء العرب آنذاك أي في العام 1948م ليدخل الصراع العربي ضد الصهيونية في مجرى الاستنزاف للدول العربية الوطنية وعلى رأسها سورية. وسورية حينئذٍ قد شكلت إضافة لجيشها الذي كان يستكمل مقوماته بعد أن تحرر بلدنا من الاستعمار الفرنسي قد شكلت كتيبة للدفاع عن فلسطين وحزب البعث هو من شكلها ليجعل من قضية الدفاع عن عروبة فلسطين أول اختبار للاستقلال الحقيقي لسورية من الاستعمار. ومنذ ذلك التاريخ والقوى السياسية الوطنية تدفع بالسياسة السورية دوماً نحو التمسك بقضايا الأمة العربية العادلة في المزيد من إنجاز مهام الاستقلال، ومواصلة عجلة التنمية العربية البشرية والاقتصادية. ولكون المبدئية السورية قد حرصت على الوقوف المستمر مع القضايا العادلة لها، ولأمتها العربية فقد كان من الطبيعي أن يتوجه الصراع الاستعماري بأثوابه الجديدة إليها، ليتحول الصراع على سورية في خمسينيات القرن الماضي إلى علامة فارقة في التعامل الغربي مع العرب وذلك من أجل خدمة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين الذي إن تخلّى عنه الغرب لن يصمد كثيراً أمام حركة النضال العربي التي كانت تغذيها سورية لا سيما بعد وحدتها مع مصر عام 1958م. ومن المعروف كيف سعت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون لتمكين كيان العدوان من شنّ الحروب على بلدنا لما يمثله من قلعة صامدة للعرب بوجه كيان العدوان، أو بوجه الأطماع الغربية في عودة الاستعمار إلى بلادنا طمعاً بموقعها وثرواتها.
ولو تتبّعنا التاريخ العربي منذ النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم إلى يومنا هذا لوجدنا أن السياسة المبدئية القومية السورية هي التي كانت توقف أي مظهر من مظاهر التراجع تحت وطأة الضغوط الغربية المتصهينة، وهي التي كانت تصلب الإرادة العربية في مقاومة الصهيونية، وداعميها. وهي التي منعت مخططات الاستسلام والتصفية للقضية العربية المركزية قضية فلسطين من مشروع روجر إلى كامب ديفيد، إلى أوسلو، إلى مبادرة عبد الله … إلخ.
ولكون سورية تتمتع بمجال حيوي مهم في العلاقات العربية – العربية فقد تركّزت الجهود الغربية والصهيونية على وقف هذه الدينامية السورية في إطار النظام العربي، والعلاقات العربية البينية. وكانت الذروة في اختراع قصة الثورات والربيع. ولم يبقَ عربي واحد مقتنعاً بأن الربيع كان لمصلحة العرب، وإلا لماذا تفكّر أميركا عبره إلا بخدمة إسرائيل؟ ربيع عربي في خدمة إسرائيل، ويبقى عربياً هذه الكذبة قد اكتشفتها جماهير سورية الوطنية، وخاصة حين صبّ الغرب الصهيوني قطعان الإرهاب الدولي لكي يحققوا للسوريين الثورة والربيع. ومن يتابع أهداف الحلف الأمروصهيوني وأدواته الإقليمية، والأعرابية سيتوصل إلى أن الإرهاب الوهابي الأخواني التكفيري لم يسعَ إلى تخليص السوريين من أوضاع داخلية كما ادعى بل كان سعيه لتخليص الإنسان السوري أي حقوق ولا سيما بقاء بلده موحّدة أرضاً، وشعباً. وللمزيد من الدجل السياسي والتضليل سمعنا على لسان الأمين العام للأمم المتحدة بأن في إدلب نزاعاً مسلحاً بين الدولة ومعارضيها. وكأن الأمين العام المذكور لا يعرف عن عشرات الآلاف من إرهابيي النصرة، وزبانية أردوغان الإرهابيين.
ثم كأن الدولة السورية ليس لها سيادتها على أرضها لكي تحررها من الإرهاب، أو لكأن الإرهاب حقّ الاستثمار فيه ضد الدولة السورية حتى يتم تدميرها. وما هو جدير بالوقوف عنده أن أميركا وعملاءها الإرهابيين مهما سيطروا على مدن ومناطق سورية فهم يدعون بأنهم لا يضرّون بالمدنيين، أو مسموح لهم قتل المدنيين ومن ثم الإرهاب مهما استخدم من سلاح كيميائي جاهزة أميركا أن تغطّيه، بينما تسعى أميركا وحلفاؤها لكي توقف الجيش السوري بحجة الكيميائي لكي لا يتحقق أي نصر على الإرهاب.
لقد توضحت عبر هذه الحرب الإرهابية على بلدنا عدة معادلات من الممكن أن نأخذها بعين الاعتبار والبلد يسير نحو إعلان نصره على الإرهاب لعل الأولى فيها أن الحلف الأمروصهيوني وحلفاءه لم يُدخلوا الإرهاب إلى داخل سورية لكي يخرجوه حين يضطرون فهو أدواتهم، وهم مشغلوه. والمعادلة الثانية أن الذي خطط لتدمير سورية الدولة، وتفكيك مجتمعها لن يتقبل الهزيمة، ولن يسعى للاعتراف بالنصر السوري فالنصر سوف يتحقق بالرغم عنه.
والثالثة أن الصراع الدولي يتشعب الآن بين أميركا ومن تحاصرهم اقتصادياً، أو من تنذرهم بالحرب عليهم حتى توقف أدوارهم الإقليمية والدولية من قاعدة أنها ما زالت سيدة العالم والسيد مجبرة الأمم أن تطيعه. والرابعة هي عدوانية أميركا على العلاقات الدولية حيث لم يبقَ في سياستها أيُّ احترام للقانون الدولي، ولمواثيق الأمم المتحدة، وحق الأم في تقرير مصيرها. والخامسة تريد فيها أميركا أن تواصل تدخّلها في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى ولو من خارج قرارات مجلس الأمن وتعيد الخطاب الحربي من جديد إلى أسلوبها في العلاقات الدولية. والسادسة هي أن أميركا لا تحترم حقَّ الحياة عند الشعوب التي تستهدفها وهي الآن تتواجد مع أطلسييها على الأرض السورية بذريعة مكافحة الإرهاب وهي كاذبة، وتأخذ من الكردية السياسية ذريعة تواجدٍ عسكري وهي كاذبة، وتتحدث عن رغبتها في الحل السياسي في سورية وهي كاذبة. وحين تكون أميركا متقصدة بعدوانية مكشوفة تضييق المجال السوري من الداخل لكي تضع الدولة والشعب في إطار التقرير عليهما من الخارج فإن المخرج الوطني بالضرورة سيكون عبر تلاقي القوى الوطنية الحيّة القادرة على تمتين لحمة الشعب، والتوافق على شكل الحراك الداخلي للكتلة الشعبية الصامدة في خندق المواجهة للإرهاب وداعميه. ومقتضى الحال هنا يشير إلى التواكب المطلوب في أداء الدولة السياسية، مع الدولة الاقتصادية، والاجتماعية، والحقوقية، والثقافية، والمؤسساتية؛ حتى تتحقق في البلد الحركة الأفقية الكاملة لوطن الصمود فيتّسع المجال الداخلي للنصر، ويتعزز بالمجالين: الإقليمي والدولي.
بقلم د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 27-5-2019
رقم العدد : 16987
