الملحق الثقافي-ياسين سليماني/ الجزائر:
هل الأعمال الكوميدية تعني مواضيع «خفيفة» وغير «جادة»؟ إنّ الإجابة الأولية غير العارفة قد تقول: نعم. لكن على العكس من ذلك. لا تقف الكوميديا في خصومة مع «الجديّة» مطلقاً. كل المواضيع والأفكار بلا استثناء يمكن تقديمها في القالبين: الكوميديا أو التراجيديا، أو الممازجة بينهما؛ إذ يمكن لصنّاع العمل أن يقدموا عملاً يمزج بين الأنواع والأساليب خدمة للفكرة التي يطرحونها. المواضيع الجادة والهامة، الأفكار الكبرى على الرغم مما يظهر عند الناس أنّ الأنسب لها الابتعاد عن الكوميديا، غير أنّ هذا تعميماً يبدو أن الناس درجوا عليه وألفوه لشيوع اختياره دون إمكانية تبريره.
تحاول الكوميديا في الأصل أن تنبّه المتلقي إلى عادة أو عيب، يكون موضوعاً للسخرية أو الهجاء وتصحيح هذه العادات والعيوب من خلال الضحك، ويغلب في هذه المسرحيات الهجاء السياسي أو الاجتماعي أو التركيز على عيوب بشرية كالنفاق والبخل. إننا نضحك على كل ما يثير السخرية، وهو السلوك الذي نلاحظه وتجبرنا الثقافة والمحيط أن نتجنبه.
«الكوميديا الراقية comédie haute» توصف غالباً بأنها تدعو للابتسامة وتقترب من الوقار، تستخدم أفكاراً مرهفة وتلميحات وعبارات شديدة القصر، وتنم عن قوة ابتكار وتوليد متميز للمواقف المتناقضة والأحداث الطارئة، فيها عنصر المفاجأة واللبس والحادث المفاجئ، بينما «الكوميديا الوضيعة» comédie basse تخوض في التهريج، مستخدمة تعابير وإيحاءات جنسية، أو عبارات خارجة غير مقبولة عند الملتقي الذي تشكل له الصدمة سبباً للضحك، صحيح أنها تشترك مع الراقية في التنبيه إلى السلوك الإنساني والعادات البشرية وما يعتورها من خلل ومفارقة مثيرة للسخرية، ولكنها تستخدم «الابتذال» في مواضع كثيرة، وقد يكون الهدف الأساسي منها هو الضحك ذاته أكثر من تصحيح المواقف وتنبيه المتلقي لمراجعة أفكاره وطرائق ممارستها؛ بحيث يكون من السهل اكتشاف اختفاء النص المسرحي ليتم تعويضه بمحاولات «تركيب» عرض «فرجوي» يضحك و»يسلّي» ولكنه لا يقدم شيئاً أبعد، بحيث يصعب أن تحتفظ الذاكرة به، وبحيث من غير الصحيح أن تعود إلى مشاهدته مرة أخرى لأنه قال كل شيء من المرة الأولى، حتى النكات واللحظات المثيرة للضحك لن تضحكك مجدداً.
الأمثلة عن الكوميديا الراقية كثيرة في العالم، وعند العرب، يمكننا أيضاً أن نأخذ مثلاً بعض الأعمال الجزائرية، كوميديا الأخطاء، شكسبير، «لعبة الحب والحظ» لماريفو التي نقلها ألفريد فرج في نص بديع هو «الحب لعبة»، أو في نص آخر لفرج أيضاً وهو «أغنياء، فقراء، ظرفاء»، أعمال لينين الرملي ومحمد صبحي مثل «بالعربي الفصيح».
في الجزائر يصعب إيجاد أعمال من هذا النوع، لكنها تبقى موجودة على قلتها، مسرحية مثل «عودة هولاكو» تناقش السياسة العربية، وهي فكرة تمتلئ بها البرامج الحوارية والندوات الفكرية السياسية التي يناقش فيها الخبراء ورجال السياسة بصرامة تمنعهم من الابتسام للكاميرا، ولكنها مع النص الذي أخرجه «لطفي بن سبع» تغدو فكرة لا يمكن أن تشاهدها مجسدة في عرض مسرحي إلاّ لتؤمن أنك أمام واحدة من قمم الكوميديا، مزيج متضافر من الضحك الغزير والمر أيضاً ومن النقد السياسي الذي لا يهادن، وتشتد المواقف الطريفة المثيرة للضحك الصافي، مع المعاني العميقة المركبة.
مادمنا جئنا على ذكر المخرج لطفي بن سبع فلا بدّ من الإشارة إلى عمله المتميّز الآخر بعنوان: «الطيحة» لا يخفى عن ذاكرة محبي المسرح في الجزائر، مقتبسة عن «المفتش العام» لغوغول. العمل نفسه للروسي الشهير تم تقديمه في مسرح أم البواقي بعنوان «الإشاعة» سبق وأن كتبتُ عنه، وكان مثالاً للعمل السطحي الساذج. تم تقديم «المفتش» لغوغول مرتين، مرة بكوميديا راقية ومرة بكوميديا وضيعة تدعو للبؤس، رجل المسرح هو القادر على التفريق إذاً بين الرقي والوضاعة. وبين حض الجمهور على التفكير ونقد الذات والواقع ومحاولة تغييره في إطار من المواقف الكوميدية المثيرة للابتسام أحياناً وللضحك الكبير أحايين كثيرة، وبين جمع «الحشد»، للضحك على بعض الإيماءات والتعابير الجنسية والكلمات السوقية المقحمة من أجل الإضحاك، ولا غرض فني لها في العمل.
ليست الكوميديا عدوّة للجدية، وليست مساوية أبداً للتهريج والافتعال والتسطيح ومخاطبة المتلقي بالبذاءات ومحاولة تحريك غرائزه بعيداً عن المتعة الفنية الراقية. ووحده «وعي» المتلقي هو القادر على التفريق بين النوعين وتشجيع الجيد منه على الهزيل.
التاريخ: الثلاثاء 28\5\2019
رقم العدد:16988