الملحق الثقافي-د. محمود شاهين:
يُعتبر كتاب (جمرٌ تحت الرماد/ فاتح المدرس رحلة الحياة والفن) لمؤلفه محمد جمعة حمادة، من الدراسات المهمة التي تناولت المسيرة الحياتيّة والفنيّة لهذه القامة التشكيليّة السوريّة الكبيرة والرائدة في هذا الحقل، بحيث شكّل لي مفاجأة عندما دفعته لي، الهيئة العامة السوريّة للكتاب لتقييمه قبل نشره. والحقيقة قرأته لأول مرة (كمخطوط) بمتعة كبيرة، ودهشة لا حدود لها، لِمَ تضمنه من معلومات تفصيليّة: هامة، دقيقة، شاملة، وموثّقة، حول حياة وفن هذا المبدع (لاسيّما خلال وجوده لدى أخواله في الشمال السوري برفقة أخيه الوحيد كامل) مصاغة بلغة أدبيّة رشيقة، تقارب إلى حد كبير، اللغة التي صاغ بها فاتح فنه وأدبه.
تفاصيل مجهولة
فقد أحاط الكتاب بتفاصيل مجهولة في حياة فاتح، كان لها منعكساتها وتأثيراتها العميقة في إبداعاته، ما يُشكّل منها مفاتيح مهمة للولوج إليها والوقوف على ماهيتها، وهو ما غاب عن غالبية الدراسات التي تناولت فنه بالتحليل والتقييم. هذا النقص سده هذا الكتاب الذي توزع على ثلاثة فصول: الأول حمل عنوان (أضواء وظلال) والثاني (أصداء) والثالث (الوطن بالريشة والكلمة).
رسم الفصل الأول، بدقة متناهية، البيئة الحلبيّة لوالد فاتح (عبد القادر) الذي قُتل في السادسة والعشرين من عمره (كان فاتح يومها في السنة الثانية من عمره). ورسم الفصل الثاني البيئة الفلاحيّة لأخواله، حيث أمضى ردحاً من طفولته بينهم، ترعاه أمه، الفلاحة التي قدمت من شمال سوريّة لتتعرف إلى والده القادم من مدينة حلب، فيضعان أول خطواتهما في مواجهة الحياة: يتزوجان، يسقطان في لجة الحياة، يسبحان معاً، تأخذهما الدوامة، تتركهما لمصيرهما بين نية الحياة ونزق الجهات. اثنان (كما يقول الكتاب) كنصفي تفاحة مقسومة، التقيا صدفة، تزوجا، وكانت الأبديّة خمراً ولحناً وربيعاً لا يهادن.
يقول فاتح: رُبيّت مع أخي في كنف أخوالي. وفي الرابعة من عمري، أخذني أهل أبي من أمي، وأعادتنا جدتي (لأبي) إلى المدرسة، لكن الوالدة كانت تسرقنا إلى الجبال، وكم أنا غني الآن بما علمتني الطبيعة في الجبال، بفصولها الأربعة. بعنفها القاسي، وحنانها القاسي. في الجبال يختلف الليل عن النهار، ولكن لا يختلف الخير عن الشر!
فنان وأديب
الفصل الثالث من الكتاب، كُرّس لإبداع فاتح الموزع على (الريشة) و(الكلمة) حيث كان الفن عنده أرق مثلما الكتابة أرق، أما مرحلة التكوين الأساسيّة التي أعطته أهم المنطلقات الفنيّة والفكريّة، فتعود إلى فترة الدراسة الأولى في روما (خمسينيات القرن الماضي) التي عرّفته على الفن التشكيلي بشكل صحيح، فقد استفاد خلالها من تجارب المدرسين الذين التقاهم، وزادت من خبراته الفنيّة، ما دفعه لتقديم التجارب الدراسيّة المتنوعة التي تدل على موهبته التي صقلتها الأجواء الفكريّة التي عاشها هناك، ومكنته من التأسيس للمنطلقات والمفاهيم الأساسيّة التي انطلقت منها وعليها تجربته الفنيّة التي ربطت الفن بالإنسان، بلغة فنيّة واقعيّة محوّرة ومختزلة، طعّمها بالرموز والأساطير، ما قرّبها من التعبيريّة.
يقول فاتح: ولدت على أرض جميلة، يخترقها نهر متوحش، تزينها أشرطة من التراب الأحمر القاني. الفصول الأربعة فيها متميزة بالأعاصير والثلوج والشمس اللاهبة. شمالي سوريّة ولدت. سموني فاتحاً لأحب وجوه الفلاحين والأعشاب الطيبة وأغاني الأطفال. أما لماذا أرسم، فلكي أكون سعيداً، فأنا بلا معرفة لست سعيداً. في تعرفي على الرسم والألوان والأشكال، أشعر بملكيّة مطلقة للأشياء في الوجود، وهذا مصدر شعوري الدائم بالفرح، ولهذا أرسم بيدي وبعيني وبحركتي، لأتعرف على الموجودات، فالمعاناة في التجارب تجعلني السيد إزاء جمال الوجود الخارق. لقد رأيت حركة الحياة ومظاهرها والضوء والصوت والمدى، رأيت كل هذا وغيره في اللون. وهكذا كان فاتح يمزج بين ما هو ذاتي مع ما هو واقعي مأساوي، ويربط بين التعبير والطفولة البعيدة، ويستفيد في الوقت نفسه، من الموروث السوري العائد لمراحل مختلفة.
علاقة الأدب بالفن
يُعيد فاتح العلاقة الإبداعيّة التي تربط الأدب بالفن، والأثر المتبادل بينهما، إلى عوامل الجذب أو التنافر بين الألفاظ والصور. فالكلمات إشارات اصطلاحيّة، توافق عليها الناس للدلالة على الأشياء المجسمة، أو على المفاهيم الفكريّة. أما المعطيات البصريّة السمعيّة فهي وحدها التي تُشكّل مادة إبداع فني، بينما لا تُؤلف أحاسيس الشم والذوق تراكيب ثابتة، لأنها وثيقة الصلة بوظائفنا العضويّة. إن الكلمة (بحسب فاتح) هي أساس المادة الشعريّة. تُشكّل صورة مغايرة في الذهن عما تتركه في نسيج اللوحة. الشاعر أمامه فضاءات متعددة للصورة، وأما الرسام فيحتاج إلى التفاصيل البحتة. لديه صورة محددة، بينما الشاعر يملك سير التجريد في الكلمة. يبتعد في الايماءات عبر رصيد ذهني هائل. يتهمنا الشعراء كرسامين ببدائية الأدوات، لكن هل كان هناك حقاً علاقة بين الكلمة والصورة؟
لوحة تعبيريّة
يرى الناقد الفني الراحل طارق الشريف بأن فاتح المدرس، توصّل في بداية تجربته الفنيّة إلى اللوحة التعبيريّة الذاتيّة التي تحمل الطابع الشخصي، والقادرة على دمج الموضوعات التي تعالجها، ضمن رؤيتها، وتحقق استقلالها عن جميع الأشكال والصيغ السابقة، بقلب الواقع حرفياً، ولا تحاكي تفاصيله، بقدر ما تُترجم العالم الذاتي، وتُقدم الموضوع عبر الرموز والقصص والأساطير.
ويرى مؤلف الكتاب محمد جمعة حمادة بأن لوحات فاتح هي ثوابت لمتحولات في عالمه الذاتي، وهو عالم تجلٍ نوراني يستطيع أن يُقيم في ذات المشاهد عوالم متحوّلة، تبعاً لحالات هذا المشاهد، فيأتيك بصروح من غياهب الزمن، تحاول الخروج من بطن الحوت، وهناك وجوه تسبح بحذاء الحوت، موازية لراقصات الزير وقبعاتهن المكمّلة لرؤوسهن، مخاريط كأبراج الحمام.
فنان الأرض السوريّة
يعرض الكتاب جانباً من دراسة وضعها كاتب هذه السطور نشرها في مجلة الحياة التشكيليّة السوريّة تحت عنوان (فاتح المدرس/ فنان الأرض السوريّة) وفيه أكد بأن غالبية لوحات المدرس، تعكس ما تحمله ذاكرته البصريّة من صور الأرض السوريّة وتضاريسها، وهذا انتماء طبيعي للون الأرض والضوء والتكوين الجغرافي، ولإنسان هذه الأرض. فطفولته كانت في ريف الشمال السوري، وقد ثبت له بعد أن تجوّل في العالم، أن سوريّة تتميز بسلسلة لونيّة موجودة في الطبيعة، لا يُجد مثيل لها في أي منطقة في العالم، باستثناء شمال الأردن وجنوب تركيا وبعض المناطق في اليونان. هذه الدقة في العلاقة بين ضوء الشمس والأرض وحركة الإنسان بينهما، هي روح الشعر في الذاكرة الإنسانيّة. وللتعبير عن هذه الحالة لجأ فاتح إلى صيغ وأساليب فنيّة مختلفة، لكنها لم تُغادر أبداً الإطار العريض لشخصيته التي باتت تُشكّل معلماً بارزاً في التشكيل السوري المعاصر.
ففي الأعمال التي تنضوي في سلسلة الفواتح من الألوان، استخدم الرمل الناعم في عملية التأسيس لها، ثم قام بالرسم عليها، تاركاً للمساحات البيضاء الفارغة حضوراً كبيراً ولافتاً، مزاوجاً بين تقنية قلم الحبر وقلم الرصاص والألوان الزيتيّة، من جهة، وبين الوجه الإنساني الضارب في خلفية اللوحة، كجذع شجرة عتيقة، من جهة ثانية. وهذا الوجه الذي طالما عُرف من خلاله، وارتبطت تجربته الفنيّة به، كعنصر أساسي ومميز لها، إضافة إلى الرموز الكثيرة التي استخدمها في العادة، كالزرع، والشجر، والحيوانات، والأطفال، والطيور، والكتابات، والعبارات التي زرعها هنا وهناك من جسد اللوحة، وبعفويّة طليقة، ساحرة، ومُعبّرة.
في أعمال أخرى، بدأ الفنان المدرس مولعاً بإشغال كامل مساحة اللوحة، خاصةً باللونين الأثيرين لديه وهما: الأزرق النيلي، والأحمر البرتقالي القاني الموشى بالذهبي والأسود. هذه الألوان وغيرها، زرع فيها الفنان المدرس وجوهه المعروفة، مختزلاً ما أمكن من ملامحها وتضاريسها. وفي أعمال أخرى، أَكثر من استعماله للون الأحمر البرتقالي القاني أو الناري، ثم قام بتوشيته بالأزرق الفاتح والأبيض والأسود، وهنا نقف على معالجتين في تجربته: الأولى وتعود للعام 1975 وفيها بدا متأنياً في تنفيذ اللوحة، إذ تبدو متكاملة البناء التشكيلي والتكويني والتعبيري. أما في المعالجة الثانية، فبدت لوحته وكأنها صدى للمعالجة الأولى، وتعود للسنوات الأخيرة في تجربته الفنيّة، حيث يغيب منها اللون الأسود، لتبدو معها العناصر والأشكال رخوة وهشة البناء.
أما أعماله الصغيرة الحجم، فقدمت لنا هي الأخرى معالجتين: الأولى تنتمي لفصيلة الفواتح من الألوان، المؤسسة بالرمل الناعم، والمشغولة بوجه هو كالأرض السوريّة، أو كملمحٍ من ملامحها. وفي المعالجة الثانيّة، أكثر فاتح من استخدام اللون الأزرق، معتمداً على محفوظات ذاكرته البصريّة، ومخزونات عينه.
التاريخ: الثلاثاء 28\5\2019
رقم العدد:16988