«الثقافـــة العَالِمـــة والعقــــل الشَّــقي»..حــاصراً الإنســـان بالمقــدَّس، فأغرقــــهُ المدنَّــس
في هذا الفضاء الذي نعيش فيه أزمة وعي كوني، والذي نعاني فيه من شقاءِ ومأساويةِ العقل العربي.. الفضاء الذي تحوَّل الإنسان فيه من فاعلٍ مرفوع بعقله، إلى مفعول به، والفاعل هو أمسه..
في هذا الفضاءُ المستشري فيه اللاوعي، نحتاج وبشدّة لحكمة العقل الذكي.. عقلُ إنساننا الذي بيَّنت الأحداث التي أحاطت بنا، بأنه فُرِّغ من المعرفة، وحُقنَ بالنصوصِ المجوفة..
إنه ماجعل الأفكار والقناعات والحكايات السفسطائية، تنتصر على الحقيقة المبرهنة والواعية. لكن.. كيف؟.. كيف انتصر العقل العدمي، على العقل النقدي الكوني؟..
سؤالٌ، يُضاف إلى العديد من الأسئلة التي أرَّقتنا، وعلى مدار الحرب التي استلبتنا. الحرب التي ومثلما شهدنا مقدار ما هيمنَ فيها الفكر الظلامي، شهدنا أيضاً، مقدار ما غُيَّب أو غاب عنها، الفكر التنويري..
أما ما دفعني اليوم تحديداً لإطلاق سؤالي، فما قرأته للباحث في قضايا النهضة والتنوير. الكاتب-الدكتور «عدنان العويِّد»، وفي مقالهِ الذي يقول فيه وتحت عنوان «الثقافة العالِمَة والعقل الشقي»:
«هي ثقافة غربة الإنسان وضياعه في منتجاته، أو علاقات إنتاجه.. الثقافة التي دفعت الإنسان الذي فقد ذاكرته التاريخية الحقيقية، في معرفة أسباب قهره التاريخي واستطالاته وتعدد أشكاله، للبحثِ عنها في «فردوسه المفقود».. أي في عصر طفولته الإنسانية التي غلفتها أنسجة لاحدود لها من الوهم والأساطير، وبما تحمله من رؤى وأفكار غير حقيقية عن سعادته آنذاك، وعن سبب فقدانه لهذه السعادة، وما حلَّ به من شقاءٍ وضياع لأمنه واستقراره، وبناءً على أساس هذا الضياع، راح يمني نفسه داخل معطيات هذه الثقافة بتحقيق سعادته وأمنه وعدالته وبالتالي خلاصه..
لقد بقي هذا الإنسان الضائع والمستلب والمشيَّء، يحلم ويطمح بالخلاص من ضياعه وخطاياه وذنوبه وغربته وتشيئه واستلابه في عالمه هذا، لعله يخرج إنساناً بولادة جديدة. بيد أنه وللأسف، ظل يعيد إنتاج قهره وظلمه بسبب استمرار إيمانه بتلك الرؤى الأسطورية وطقوسها ورموزها التي يعوِّل عليها خلاصه الأبدي، دون البحث في بنية علاقاته الاجتماعية القائمة حيث تكمن كل أسباب قهره فيها»..
حتماً، هو يتحدث عن الإنسان البدائي الذي لم يجد ما يملكه لأنه كان مملوكاً، والذي سعى للخلاصِ من فقره ومعاناته واحتياجاته فلم يجد لذلك سبيلاً.. لم يجد إلا الثقافة العَالمة». ثقافة رجال الدين التي هي، وحسب الدكتور «العويِّد»:
«ثقافة الأسطورة والمقدس والوهم والتخيل واللامعقول بكل أشكالها التاريخية ومن ضمنها الثقافة البدائية، التي لم يستطع الإنسان حتى هذا التاريخ، أن ينسلخ عن الكثير من معطياتها.
ثقافة الخوف من الحاضر والآتي، بل وحتى الماضي، وما يرافق هذا الخوف من بحثٍ عن سرِّ الخلاص عند الشيخ وحجبته أو تميمته، أو عند الساحر ورماد نيرانه وأسماء جنّه وجنياته.. الثقافة العالمة لسرِّ الوجود وحركة الكون وكوارثه أو نعمه.. ثقافة الأسطورة التي لم تزل تهيمن على حياتنا ونفسِّر بها قوانين حركة الطبيعة والمجتمع، وعالم الإنسان الداخلي في خوفه ومرضه وألمه وحلمه ورغباته.
ثقافة الشيخ والبطل السلبي بكل أشكال تجلياته السياسية والدينية والقبلية.. ثقافة كل الرموز التي تُحول الفرد منا إلى ريبورت يشعر أن كل ما تعلَّمه من هؤلاء هو بداية المعرفة ونهايتها، وأن معرفة الكون والمجتمع والفرد تكمن فقط فيما نتعلمه من هؤلاء»…
كل هذا، لابدَّ أن يتفاقم وتزداد خطورة أبعاده، في زمنٍ يتطور فيه العقل المعرفي، فتتسارع الطقوس والصيغ التي تحيله إلى عقلٍ شقي.. نعم، شقي.. يغرق في المقدَّس فيُحاصرُ بالمدنَّس.. بالتدهور والانحطاط والعدم والظلام والانهزام..
إذاً، هو ضحية العقل المتخلف، الخرافي، الغرائزي، اللاواعي، العبثي، المأساوي.. هو العقل الذي اعتبره الفيلسوف الألماني «هيغل» عبارة عن إحساس الإنسان بالاغتراب. الإنسان الذي هو «العبد» الذي ينوء بحملِ الوعي المُستلب، والمتجسِّد والحاضر كذاتٍ للسيدِ «الحر».
بالتأكيد هي «مهزلة العقل البشري»، وأبداً لا نخطئ إن ذكَّرنا بأن ماقيلَ عن هذه المهزلة، وعلى لسانِ عالم الاجتماع – المفكر العراقي – الدكتور «علي الوردي».. أبداً لا نخطئ إن ذكّرنا بأن:
«من الصعب على الإنسان أو المستحيل أحياناً، أن ينظر في الأمور بحرية تامة، وقد يتراءى لبعض المغفلين بأنهم أحرار في تفكيرهم، وسبب ذلك، أن الإطار الفكري قيد لاشعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحسون به، فهو بهذا الاعتبار، كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على أجسامنا دون أن نحس به، وقد نحس به بعض الإحساس، إذا تحولنا إلى مكانٍ آخر يتغير فيه مقدار الضغط. عندئذٍ، نشعر بأنّنا كنّا واهمين. كذلك هو العقل البشري فهو لا يحس بوطأة الإطار الموضوع عليه، إلّا إذا انتقل إلى مجتمع جديد، ولاحظ هنالك أفكاراً ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة».
هفاف ميهوب
التاريخ: الاثنين 3-6-2019
الرقم: 16992