استطاعت المرأة السورية خلال العقدين الأخيرين أن تقدم صورة مشرقة عن المرأة العربية، حين دخلت في مجال انتاج النصب النحتية الحجرية الكبيرة، وبالتالي اثمرت تجاربها المزيد من التفاعل الثقافي بين الابداع الإنثوي والفن التشكيلي.
في ملتقيات نحتية
ودخول الفنانة التشكيلية حلا عباس في هذا العمل الشاق الذي كان مقتصراً في الماضي على الرجال ساهم في إيجاد عمل فني يحقق لها ذاتها وسعادتها وانعتاقها، ولقد أنجزت عملاً نصبياً، تحت عنوان « ملائكة الأرض» في ملتقى النقيب الأول 2015 بارتفاع مترين، وهو يرمز إلى صلابة الجندي السوري، وقدرته على دحر العدوان وتحقيق النصر على أشرار القوى الظلامية أعداء الحضارة والإنسانية والتاريخ الحضاري. ولقد قدمته بصياغة تعبيرية وبأجنحة ملائكية تشير إلى قدسيته وطهارته وسموه الروحي.. كما شاركت بملتقى النحت على الخشب في تدمر بوابة الشمس 2016 إلى جانب مشاركاتها في معارض جماعية بمدينة طرطوس.
ولقد قدمت في مجموعة أعمالها، وفي مراحلها المختلفة تجارب متنوعة في مواضيعها وتقنياتها وعفويتها وتلقائيتها وحداثتها، وأظهرت فيها حالات تنقلها بين الواقعية والتعبيرية والرمزية، وكما ركزت لإظهار قيمتها التشكيلية والفنية، حتى انها اتجهت في بعض قطعها لإبراز الوجوه والعناصر النسائية باختزال وتبسيط وتحوير، وباستخدام أجواء تقنية توحي بمرور الزمن أي أنها منحتها بعداً زمنياً, كما أظهرت فيها تأثيرات بصرية وتعبيرية أستفادت، إلى حد بعيد, من معطيات ثقافة فنون العصر، والتاريخ بآن واحد، فقدمت على سبيل المثال عدة نساء في أعمال «رولييف» مشكلة بعفوية مطلقة، وعلى غرار الأعمال النحتية القادمة من العصور الغابرة في فجر التاريخ.
في المحترف التشكيلي
وفي طروحاتها البعيدة كل البعد عن الأعمال الصالونية اتجهت لتحويل الكتلة الفراغية والجدارية إلى فسحة للحوار والتأمل والنقاش الثقافي، لاستشفاف العلاقة الحيوية القائمة بين معطيات التاريخ الحضاري والتأثيرات الفنية المعاصرة التي تتوق نحو ثقافة الروح، وتنأى عن ثقافة العين عبر استحضار العمل الفني، كحدث لذاكرة تاريخية حية، تشكل المظهر الرئيسي للتعبيرية المشرقية القديمة.
ويمكن ربط أعمالها بجماليات الصياغة الرمزية، وخاصة أعمالها النصبية الحجرية والخشبية، والتي تشكل بالنسبة لها منطق الانتباه والتداعيات، فالشكل النحتي هنا يتوالد من إيقاعاته مؤشرات الإحساس بالكتلة التجريدية التي نلمسها في بعض مقاطع عملها التعبيري والرمزي. ومن أجل ذلك استعانت بتراث الاختزال والتبسيط والتحوير السائد في الفن القديم والفن الحديث معاً. ولا شك بـأن الوصول إلى درجة من الإحساس بجمالية أعمالها، يحتاج إلى إطلاع وثقافة واختبار وخبرة تقنية متواصلة ومتجددة.
وأعمال الطين أو الصلصال من ضمن التقنيات التي تقوم بتدريسها، في مركز مجيب داوود للفنون التشكيلية في طرطوس, وفيها تبتعد عن أي نظام أو انتظام أو قوالب هندسية. وتبقى مسترسلة بإضفاء عفوية على العجينة الطيعة. هكذا تعطي القطعة أشكالاً مغايرة ووحدات مختلفة عن الوحدات التقليدية لصناعة الأشكال المطروحة في السوق الاستهلاكي التجاري، وصولاً الى استخدامها تقنية «البوليستر» وتظهر في النهاية كقطعة فنية تبرز فيها قيم عفوية وتعبيرية وجمالية وثقافية.
وفي بحثها واختباراتها وتأملاتها التشكيلية تعمل على تحريك عملها (في الرسم والنحت) مع الزمن الراهن والثقافة المعاصرة. وبمعنى آخر هي تركز في تشكيل أعمالها على الإحساس التلقائي للبناء والتوازن والحركة والحيوية، المستمدة أصلاً من حركة المشاعر الإنسانية ومن تعميق علاقتها بالفنون القديمة والحديثة.
وتقدم حلا عباس القادمة من محترفات كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2011 لوحاتها ورسوماتها، بتقنيات متنوعة (رصاص، أحبار، باستيل).
والأداء التشكيلي الذي تجسده في لوحاتها، يبعدها مسافات عن الاشارات الواقعية التسجيلية، ويدخلها في اطار الحالة التعبيرية المعبرة عن عمق الانفعالات الداخلية، التي تمنح خطوطها وألوانها المزيد من التتابع الايقاعي في سياق رسم مواضيع الوجوه، وتسجيل لحظات الأنوثة بحالاتها المختلفة والمتنوعة.
تأثيرات الواقع المأساوي
وهي في ذلك تستعرض اختباراتها التقنية، التي توصلت إليها في بحثها اليومي وأعطت لوحاتها ومنحوتاتها هذا التنويع، في تجسيد الموضوعات الحميمية، ولاسيما الوجوه بفرح داخلي أحياناً، وبحزن مركز أحياناً أخرى، حيث ترسم وجوه الفتيات الحالمات وحركات أيديهن المتلهفة للحنان.
كما تمنح أعمالها المزيد من التتابع الإيقاعي الروحاني، وهذا يعطيها قدرة على الاستفادة أو التأويل من معطيات الفنون القديمة، ويحقق الاندفاع التشكيلي، الذي يجمع ما بين معطيات التلقائية والعفوية.
وهي تجسد حالات الإنسان القلق الضائع، كأنها تجسد المخاض والأحزان والآلام الذي غالبا ما تعالجه كحالة إيمائية قادمة من تداعيات الذاكرة المتعبة، في لحظات التصدع والتوتر القادم من مآسي الحروب والموت والتدمير والتهجير. حيث تتعامل مع مفردات الواقع بلغة تعبيرية توازن بين التجسيد والصياغة المختزلة، المفتوحة على رحلة القلق والآلام والتطلعات الشاحبة.
فالبحث عن مناخات بصرية مختصرة لتكاوين الأشكال الإنسانية شكل في تجربتها هواجس لاختبار الصياغات التشكيلية المتداولة في الفنون الحديثة، والقائمة في جوهرها على مبدأ الاختصار التكويني، لإشارات الأشكال وإعطاء أهمية قصوى لجوهر الحركة الاختزالية.
وتنويعات الغوص في جماليات الفنون الحديثة، ما هي إلا محاولة للوصول إلى صياغة فنية جديدة، تبعدها مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، وتعيد الاعتبار للاتجاهات التعبيرية التي عرفتها تنويعات الفنون الحديثة في الشرق والغرب، وهي إلى جانب ذلك ترتبط بإيقاعات تشكيلية مأساوية أسماها بيكاسو مرة (بأنغام حزينة) ربما لأنها تكشف عن إيماءات الشعور بالعزلة والفراغ وإثارة الخوف والقلق في عالم ضائع لا يعرف إلى أين يتجه، هو عالمنا الراهن المفتوح على أهوال وكوارث الحروب، والقائم على المنطق الخاطئ للتمدن، بتقمصه الغرائز الموروثة والمتحمسة للحروب بأدق تفاصيلها المرعبة والموحشة.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الخميس 13-6-2019
الرقم: 16999