تطرح لوحات الفنان إيلي بنان أكثر من سؤال حول جدلية العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين معطيات الفنون التعبيرية والتجريدية، ومدى القدرة التي يملكها في خطوات اختصار العناصر الإنسانية، في لوحاته التجريدية، والإبقاء فقط على اشاراتها الدالة عليها.
حالة تصالحية
ومن هذا المنطلق تظهر في أعماله حالات التنقل بين الواقع والتجريد بمثابة حالة تصالحيه بين الاتجاهات التصويرية (لما بعد الإنطباعية، وبالأخص مرحلة بول سيزان) وبين التجريد اللوني الذي يعتمد المساحات وحركات الخط اللوني, فما بين طروحات مشاهد الطبيعة، التي يعطي من خلالها متانة وصياغة معمارية للمشهد، وبين أعماله التجريدية، تظهر أجوبة لتساؤلات كثيرة مكثفة حول التوجهات والانتماءات الثقافية والجمالية, ويكفي أن نقارن بين طريقة معالجته لعناصر الطبيعة والأشكال الإنسانية، حتى نواجه مدى التباعد والتقارب في آن واحد بين التجربتين، ورغم ذلك تبدو الروح التعبيرية واحدة وإن اختلفت في تقنياتها وطرق معالجتها، وهذا ما اسميه بوحدة الإختلاف أو وحدة التنوع. فهو في أعماله التجريدية، يجنح في اتجاهه التعبيري نحو الاختزال واضفاء المزيد من اللمسات اللونية العفوية، ويؤكد هواجسه الفنية في إضفاء أسلوبية خاصة ومميزة، وبالتالي فأعماله تشكل خطوة تصاعدية في تجربته المتواصلة منذ سنوات طويلة. وهو في هده المجموعة يهدف الوصول إلى الاتزان التجريدي، الذي تؤديه أحياناً الخطوط السوداء التي تشير الى العناصر والأشكال الإنسانية.
ومن خلال هدا التنقل بين التشخيص والتجريد يؤكد عدم انحيازه لاتجاه دون آخر وقدرته على تحويل نشاطه (حتى خلال عمله في الديكور) إلى فسحة للحوار والنقاش بين الأساليب والتيارات, فهو يرضي أنصار الواقعية التعبيرية وأنصار التجريدية في آن واحد, ويعطي الثقافة التشكيلية طابعها المشهدي الحقيقي، وخير دليل على قولي هذا إنه يقدم للجمهور تجارب تجريدية متطرفة في حداثتها, وهدا يعني أنه يقدم ماله علاقة بثقافة العامة وثقافة النخبة معاً، مؤكداً أن الفن ليس حكراً على جمهور الصالات فقط.
هندسة لونية
وفي أعماله التجريدية يبحث إيلي عن منطلقات جديدة تعيد الاعتبار للاتجاهات الأكثر جرأة وحداثة، والتي توحي باستمرارية الهواجس البدائية (على اعتبار إن الأعمال الفنية الحديثة التي تستعيد إشارات ورموز الفنون القديمة، قد فرضت وجودها في فنون العواصم العالمية منذ بدايات القرن الماضي), إنها لوحات لإثارة الأسئلة, لان الارتجال الذي نجده في حالات التلوين والتكوين يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، ويدخلنا في جوهر الحالة التجريدية، والتي يعمل من خلالها لإبراز الصورة المتداخلة، بين المساحات التجريدية لاستعادة تخيلات الصورة المحمية على جدران الأزمنة المنسية.
وهو على هذا الأساس يرتبط بإيقاعات تشكيلية قديمة وحديثة في آن تذهب إلى مثل هذا التبسيط والتجريد والحرية، فيحول مساحة اللوحة إلى فسحة للتشكيل الحر القائم على موهبة حقيقية وثقة وخبرة، فيجسد الأشخاص مهتما باستقلاليتها وبما يجري داخل مساحتها من إضاءة تدخلنا إلى أغوارها ولا تتوقف فقط عند قشرتها الخارجية.
معالجات مختلفة
لا نستطيع أن نحصر لوحات إيلي بتوجه فني محدد كأن نقول مثلا: أنه تعبيري أو تكعيبي أو تجريدي..الخ ذلك لأنه يقدم نفسه ضمن دائرة من الإختبار والحرية، تجعله غير محصور بتعبير محدد وغير مختصر بسمة مدرسية ضيقة، فاللوحة بالنسبة إليه يمكن أن تأتي بمعالجات وتقنيات مختلفة، وان حافظت على الروح الواحدة كما أشرنا.
وحضور الأشكال في لوحاته في تنقلاته بين أكثر من مدرسة واتجاه، ليس حضوراً مادياً بقدر ما هو حضور روحي معنوي و بقدر ما هو في الأساس مدخل للسرد اللوني العفوي والتلقائي, فنجد الشكل قد ابتعد عن هيئته الواقعية ودخل في رمزيته الخاصة بحيث تتحول اللوحة هنا إلى فسحة تأمل زاخرة بالإشارات والرموز والتعابير الذاتية الانفعالية, من هنا كان الجمع في لوحاته بين التعبيرية وبين التجريد, بين تبسيطه الأشكال الواقعية وبين ذلك التركيب المكثف للتكوينات الهندسية، في لوحات الطبيعة حصراً، والتي تقرب اللوحة من المدرسة «السيزانية نسبة إلى الفرنسي بول سيزان» التي شكلت بدايات ثقافة فنون العصر.
وما هو لافت أيضا تلك الإيقاعات اللونية التي تهدأ مرة وتعنف مرة أخرى، فالمساحة تشف أحيانا إلى حد الصفاء اللوني وتبرز أحيانا بصياغة وحشية تنتجها الخطوطية الانفعالية في حركات الفرشاة أو سكين الرسم الحادة وبطريقة تنسجم مع خطه التشكيلي العام. هكذا يضعنا أمام تنوع بارز في أسلوب المعالجة للأشكال والألوان والإضاءة والانفعال الداخلي، الذي يحرك المساحة, وهذا ما نلاحظ من خلال تبديل مستوى وضوح الشكل الواقعي بين لوحة وأخرى، وبروز اللطخات اللونية، فتتدرج اللوحات من التصوير الحديث للأشكال إلى التشكيل التجريدي الذي يستخدمه أحيانا للقول ذاته بأقل مايمكن من الإشارات.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الأربعاء 19-6-2019
الرقم: 17004