الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
«وأنا الذي لا يسمع إلا همس الدم الصامت
الذي يدق في حياتي، في كل من جهتي رأسي…». فرناندو بيسوا
1- الطرق الهوائية
يرى بوريس باسترناك، أن أدمغة العظماء، تلتقي هناك في «الطرق الهوائية»: كالقطار كانت تأتي الأفكار المستقيمة، أفكار كارل ليكبنخت، ولينين، وأدمغة قليلة أخرى بالعظمة نفسها. كانت طرقاً مستوية، تستطيع وتجرؤ أن تَعبُر أيَّ حدود، مهما كان اسمها…». بطريقته الساحرة والموحية والمتوارية يتحدَّث باسترناك عن الأفق الذي صنعه لينين في سماء «الأممية الثالثة».
ربما أساءت البيروقراطية السوفييتية فهم باسترناك، وجعلته نهباً للحساد والانتهازيين وتأويلاتهم الخاطئة وسيئة النية، لقد آثر الصمت، ولم يجنح إلى الابتذال السياسي، وبقي الشاعر صاحب الصوت العميق، والسرد الذي هو رسم بالكلمات، وهو يعرف أنه وريث بوشكين وليرمنتوف ودوستويفسكي وتولستوي وريلكه..
رأى إيليا إهرنبورغ: «أنَّ باسترناك وحده هو الذي وضع أسس الأدب السوفييتي الحديث، ولهذا السبب فإن قواه الخلاقة سببت ولا تزال تسبب كل هذا الخلاف بشأنه».
باسترناك لم يستنفد قيمته وهو من الخطوط المستقيمة والمستوية للطرق الهوائية في فضاء الإبداع.
2- هيا نشتر شاعراً
هذا عنوان رواية من الروايات الجديدة، ترجمت إلى العربية وصدرت في تونس، للكاتب البرتغالي «أفونسو كروش» ترجمها عن البرتغالية عبد الجليل العربي. رواية بسيطة للغاية، ولكنها مقلقة أيضاً! مقلقة بسبب هذه الهوة الفاغرة بين روايات عصر بلزاك وستندال وتولستوي، وبين هذا النوع من الروايات شديدة الذكاء والقادرة على أن تجعل الجدية الفلسفية بمنزلة أضحوكة ساخرة، الرواية تهزأ بالجدية برمتها، كما تهزأ بالعالم الوضعي وزيف ادعاءاته وتفاهاتها.
فأيها السرديون الكلاسيكيون لو تأتون اليوم إلى عالمنا وترون كيف صارت تُكْتَب الروايات؟! تبدأ الرواية: بعنوان عريض: ثلاثون غراماً من السبانخ، ثم الجملة الأولى: «أكلت ثلاثين غراماً من السبانخ هذا اليوم، سعر الكيلو باثنين من اليوروهات وثلاثين سنتاً…». الرواية في غاية العمق والطرافة وخفَّة الدم، ومن الصعب معرفة هل هي مكتوبة للصغار أم للكبار؟! وهذا لا يقلل من شأنها. فكرة هذه الرواية، أن صبية عمرها ثلاث عشرة سنة، رغبت في أن يشتري لها والداها شاعراً من الحانوت، كما اعتاد الناس أن يشتروا قطاً أو خروفاً أو كلباً أو أرنباً، ووجد الأب والأم أن الطلب معقول، فالشاعر لا يكلف مالاً كثيراً، ولا يترك أوساخاً في المنزل مثل الرسامين والنحاتين، وهكذا تم شراء شاعر!
الرواية على الرغم من بساطة شكلها ومحتواها ولغتها، جعلت من الشعر ولغة الشعر لغة الحياة اليومية التي فرضت نفسها على الحياة النفعية والفوضى الأسروية، ففي خاتمة هذه الرواية التي لا تخلو من التفلسف يرى المؤلف: «الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل… الخيال والثقافة يبنيان كل ما نحن عليه».
شخصيات قليلة، والرواية من أولها إلى آخرها الشاعر هو المحور فيها، حتى وهو في قفص، وتنتهي الرواية بهذه الجملة المدهشة التي تختزن كماً كبيراً من الجد والهزل: «وعلينا ألا نترك الشعراء في الحدائق».
3- الحداثة السائلة
هذا عنوان كتاب فكري، لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، يضع فيه باومان مصطلحاً بدلاً من المصطلح الغامض والملتبس: «ما بعد الحداثة» البديل هو الحداثة السائلة، التي هي مرحلة تالية للحداثة الصلبة. يقول باومان: «إن ما كنا في الماضي نسميه، خطأ، ما بعد الحداثة، وما قررت أن أسميه بوضوح «الحداثة السائلة»، إنما هو الإيمان المتنامي بأن التغيير هو الثبات الوحيد، وإن اللايقين هو اليقين الوحيد…».
لا ينظر باومان إلى الصلابة والسيولة بعدّهما ثنائية متعارضة، بل على أنهما حالتان متلازمتان، تحكمهما رابطة جدلية، تشبه الرابطة التي ربما كان يقصدها فرانسوا ليوتار عندما قال: «إن المرء لا يمكن أن يكون من أهل الحداثة من دون أن يكون أولاً من أهل ما بعد الحداثة. وإن البحث عن صلابة الأشياء والحالات هو ما دفع إلى إذابتها، وأبقى على استمرارية الإذابة، ووجّه مسارها، فلم تكن السيولة خصماً معادياً، بل أثراً من آثار البحث عن الصلابة، ولم يكن لها أب سواه، حتى لو أنكر هذا الأب أنها ابنته الشرعية».
باختصار يحاول باومان أن ينهي الحالة التنابذية ما بين الحداثة وما يعرف بما بعد الحداثة. وفي نقده للواقع يرى باومان أن عالمنا اليوم يشهد عنفاً سائلاً وهيمنة صلبة، وهو يتعرض لتهاوي الأنظمة وتفكك الروابط. ونحن في الواقع نعيش اليوم حالة انتقال أو عبور (صدمة) من الرتابة والانتظام والتكرار والتوقع هو ما يُخرج الحالة الطبيعية من ضبابيتها اللاشعورية، ويضعها في ضوء النهار. خلافاً لكل مفكري هذه المرحلة العدميين يبدو باومان أكثر تمايزاً وتفاؤلاً ومن ثمَّ إنسانياً.
4- عقدة العصر الانتقالي
أكثر من تحدث عن إنسان العصر الانتقالي الكاتب والشاعر والفيلسوف اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، صاحب رواية «زوربا» والأعمال العظيمة الأخرى. جعل كازنتزاكيس هذا المفهوم عقيدة ذات بعد فلسفي، تتعلق بنظام الكون والقوانين المسيطرة على العالم، فالكون والوجود يعيشان بين هوتين، وعلى الإنسان الحديث أن يجد المخرج من هذا المأزق الانتقالي، في خلق التعادل ولو عبر الخيال أو الصرخة أو البطولة.
الإنسان الحديث في رأي كازنتزاكيس، يعيش بين هوتين، وعليه الانتقال عبر التجربة من ضفة إلى أخرى، مهما كانت النتائج، فالإنسان الحديث المنشود ضد الركود، ويخوض حربه الفردية والإرادية ضد الخمول وكل أشكال الركود والاستنقاع، تماماً مثل زوربا، ومن ثمَّ فإن (زوربا) بطل الانتقال، وبطل التحقق واللايقين، إنسان السلب والإيجاب، الرفض والقبول، يجعلنا نحصل على التعادل هذا التعادل يشكل مخرجاً غير مأساوي للخروج من المأساوية. كما أن الفن والرقص يشكلان مخرجاً للإنسان الحديث، الفن بكل أنواعه الإبداعية، والإنسان الزوربوي ذواقة للفن، ويمتلك أحاسيس عالية بخصوص الموسيقا والشعر. باختصار، ما يمكن أن نستخلصه من تطبيقات وفلسفة كازنتزاكيس إن الإنسان المنشود، الحديث، هو إنسان البهجة والفرح، الجزل والمرح، الإنسان الذي تلتقي فيه روافد عديدة مثل نيتشه وبرغسون ولينين وتروتسكي والمسيح والدونزيوس، إنسان ما بعد الملاحم الكبرى، وما بعد الرأسمالية والشيوعية.
5- المثيولوجيون
هواة المثيولوجيا، وأنا واحد منهم، نافعون أحياناً، كما يرى غاستون باشلار، لأنهم يعملون بإخلاص في منطقة العقلنة الأولى. ومن هذا المنظور الباشلاري، يمكن التحدث عن «أخلاقيات أسطورية» تقوم على فهم تزامني للثقافة، يغدو فيها الزمن متوحّداً وغير تتابعي، فالماضي يكون حاضراً، وكذلك المستقبل، والزمن الفاعل هو زمن التفكير، الآن وهنا، إنه الراهن الذي يتيح لنا أن نرى ونقرأ الأزمنة قراءة معاصرة، ونعيد تشكيل ثقافتنا وأساطيرنا بالشكل الذي نراه مفيداً وممتعاً، وبهذه الآلية تذوب السلفية والثنائية الضدية بين التراث والمعاصرة، القديم والحديث، وتغدو الذات العارفة حاملة لكل الأزمان، ومختبراً عقلياً للاختيار والاصطفاء والتنحية والمحو والاستحضار… هذا جانب من جوانب تسويغ التفكير المثيولوجي وتفتح ثماره وفوائده.
6- القافية والكلام
لديَّ رغبة، وشعور بالدين تجاه الصديق المبدع رائد خليل، كان علي أن أقول شيئاً مكتوباً حول تأملاته الملونة وغير الملونة التي جذبتني برشاقتها وعمقها الموجز والمكثف، والتي تشبه ضربة الريشة، أو لسعة النحل. يتمتع رائد بذكاء فنان كبير، وهو رسام الكاريكاتير الحاصل على جوائز كثيرة وطنية وعالمية، هو يكتب الشعر والتأملات بروية وانفراد وتفرد، يذكرني رائد بالحكماء الهنود والصينيين، هذا الفنان يرسم ويكتب بعيداً عن الضجيج، إنه يوحي ولا يصرح، يبتسم ولا يقهقه، ويجعلك تقع في حيرة من أمرك هل النضج يأتيك من الورق أم الحبر أم الذات المتوارية، من الرسم أم الشعر أم السرد، إنه يجعلك تعيد النظر بذاتك، ويدعوك برفق إلى الغبطة والتأمل الإيجابي في هذا العالم، وهذا سر من أسرار هذا الفنان الخلاق. في كتابه «القافية تسير والكلام يعني» استوقفتني الشذرات المكتوبة في هذا الكتاب، وأكثرها إدهاشاً هذا النص الذي قدمه رائد في باب «قاف. قاف. جيم»:
«باب البيت بلا مقبض، والنوافذ خلعت حياءها، الريح تسرح وتمرح في كل الزوايا. الهاتف يرن.
-ألو أريد التكلم مع ليلى.
-أهلاً بك سيدتي… أنا الذئب، للأسف ليلى ذهبت إلى مقبرة البلدة لدفن جدتها التي ماتت قهراً، مَنْ يتكلم لكي أخبرها؟
-يا إلهي! لروحها ألف سلام، قل لها اتصلت معك الحكاية…».
هذا المقطع يمكن أن يكتب عنه باستفاضة، تأويلاً وتفسيراً ومراودة وتداعيات، إلا أن الأبلغ وفق طريقة رائد ترك الأمر للقراء، كيفما يشاؤون.
التاريخ: الثلاثاء16-7-2019
رقم العدد : 16025