الملحق الثقافي: حاتم حميد محسن:
يستمر المنظّرون وفلاسفة السياسة بالنقاش حول ما إذا كانت هناك قيمة وفائدة للشعوب المتنورة. سنبيّن هنا أن الشعب المتنور هو أساسي لتقدم المجتمعات الحرة.
مقدمة
حالياً، نرى الحاجة تتصاعد لمزيد من الناس المتنورين، ولكن ما معنى التنوير؟ كذلك، كيف يجب على الناس ترجمته إلى واقع سياسي؟ أيضاً، ما هي وظيفته وقيمته؟ الهدف هنا هو أولاً لاستكشاف ماذا يعني المتنور سياسياً من خلال عدسة فيلسوف القرن الثامن عشر عمانوئيل كانط. بعدها، سنقارن رؤية كانط للمواطنة، لنبيّن كيف أن التشابه بينهما يساعد في تزويد المرء بفهم أعمق عن الكيفية التي يجب أن يعبّر بها السكان المتنورون عن أنفسهم سياسياً. أخيراً، باستخدام فهم أمارتيا سين للنجاح الاقتصادي للدول التي تشجع التوسع في الحريات، سوف نتمكن من الوصول إلى موقف يشترك فيه برؤية مشابهة لرؤى كانط أو روسو في الناس المتنورين الذين يشكلون الأساس لاستمرار تطور المجتمعات الحرة.
كانط والتنوير
الفرد المتنور لدى كانط، هو الذي يتبنّى النضج الفكري، أو المقدرة على التفكير الذاتي بشكل مستقل. الأساس لهذه الادّعاء هو أن الناس يمتلكون قدرة عامة على التفكير، جاعلين منها واجباً عليهم كأفراد، لغرس وتربية تلك القدرة، وفي النهاية هم يستطيعون العيش مجتمعين بانسجام أكثر. للقيام بهذا، يقترح كانط أن الناس يجب أن يتصرفوا فقط طبقاً للمبادئ الأخلاقية التي تحمي خيارات قراراتهم وجميع الكائنات العقلانية الأخرى. بكلمة أخرى، عندما يؤكد الناس حقهم في التقرير لأنفسهم بينما يمتنعون عن مخالفة حق أي شخص آخر في القيام بذات الشيء، هم يقومون بهذا بطريقة تنويرية. هذا الميل التنويري يعتبره كانط انعكاساً للاستقلالية أو الفرد المحكوم ذاتياً، لأن أولئك الذين هم حقاً أحرار يطبّقون انتباههم الذهني التام في جميع القرارات خاصة تلك المتعلقة برفاهية أنفسهم والآخرين.
وفي النتيجة، يدّعي كانط بأنه في مجتمع ما، من المهم جداً للناس احتضان هذه الرؤية للحرية أو السيادة أو التنوير. أحد الاسباب لهذا، هو أنه لا أحد يشكل كل السكان، وبسبب هذا فإنه من الصحيح جداً النظر إلى المجتمع كعالم تتعايش فيه جنباً إلى جنب الرغبات العقلانية. وبهذا، فإن السيادة الحرة أو الفرد المتنور يعترف بهذه الحقيقة، طالما كون المرء تام الانتباه، ذلك يستلزم الاعتراف بحقه في ادّعاء الحرية بطريقة تتفق مع رغبته، بينما يؤدي أيضاً واجبه في احترام حق الآخرين للقيام بذات الشيء. من هنا، يدّعي كانط أن المرء، الذي هو عضو جيد في الجماعة، هو الذي يعيش بهذه الطريقة المتنورة، لأنه عندما يعترف الناس بحقهم في الحرية بالارتباط مع واجبهم للاعتراف بالروابط المشتركة للعقل الذي يشتركون به مع الآخرين، فإن السلام والازدهار سيسودان. وعليه، عندما يعمل المجتمع بطريقة تحمي حرية الفرد بينما لا تمنع أحداً من التمتع بحريته، فهي تعمل بشكل صحيح. أخيراً، المجتمع الذي يسير بشكل جيد يعتمد على الاستقلالية والتنوير أو الحرية المخلصة، طالما أنها الطريقة الأكثر منطقية وعملية لتجنب العنف وحكم الغوغاء والانقسامات في الحكم.
الآن يوافق كانط بأن الشعب يجب أن يكون واعياً لمسؤوليته عن آخرين باعتبارهم كائنات عقلانية فطرياً وذوي رغبة يشتركون بحقيقة مشتركة، لأنهم فقط حينذاك يستطيعون العمل بأحسن طريقة. لكي ننجز هذه الغاية يقترح كانط بأن المناخ التحرري الذي ينتعش به العقل سيساعد في صقل وتعليم الناس للتخلص من الجهل والتحيزات والكذب والخرافات المرتبطة بها. أي عندما يعيش الناس في مكان يزدهر فيه الصدق والاتصالات المفتوحة، وحيثما يمكنهم الاستخدام الحر لقوة عقلهم لتمحيص عقائد الآخرين لأجل المصلحة المشتركة، فإن ذلك الشعب يكون شعباً واعياً لا يواجه خطر العمى الدوغمائي أو التصورات البربرية. باختصار، كانط يعتقد أن الناس المتنورين هم عنصر ضروري لعمل الدولة لعدة أسباب:
أولاً، التماسك الاجتماعي، الذي هو أساس الانسجام السياسي، يبقى سليماً عندما يتبنّى المرء الافتراض المنطقي بعدم وجود قدرة للعقل أقل أو أكثر من الآخرين، وبسبب ذلك فإن جميع الناس يستحقون بجدارة احترام الفرد المناسب. وطبقاً لذلك، الأمة التي هي مجموعة من الرغبات العقلانية المتعايشة في نفس المكان، تتطلب أناساً متنورين، لأنه إذا لم يوجد هناك أناس أحرار مخلصون للواجب يتصرفون فقط بما هو أحسن لأنفسهم ولمواطنيهم، فإن المجتمع سينزلق نحو حكم الغوغاء. وعليه، يرى كانط أن وجود الناس المتنورين ليس فقط ممكن مفاهيمياً، وإنما أيضاً هو ضرورة لاستمرار المجتمع طالما أن البديل هو العنف المفرط وجماعات الاستبداد.
أيضاً، ربما يدّعي أحد أن الروح القومية أو الأرضية المشتركة التي يتحدد ويرتبط بها كل أفراد الأمة، تعتمد على الناس المتنورين أيضاً. أولاً، الكائنات العقلانية يمكن أن تعترف بالقدرة المشتركة للآخر في التفكير، وتصنع طريقاً لتلك القوة المشتركة لتعمل كأرضية أساسية للاحترام بين أعضاء نفس المجتمع. الآن، طالما كل المواطنين في الأمة لديهم قوة مشتركة للتفكير والرغبة والفعل، فسوف لن يكون هناك حق لأي شخص آخر في منع الآخرين من التمتع بتلك القدرة الطبيعية. وفي النتيجة، يدّعي كانط أن السكان المتنورين سيحافظون على روح الأمة، لأن قوة المشاركة في التنوير أو الحوار العقلاني سيساعد في منع القمع ضيق الأفق، وفي النهاية منع العصابات غير المتنورة من الحكم القمعي.
كذلك، يعتمد تقدّم الأمة على السكان المتنورين أيضاً. ذلك بسبب أن الناس إذا كانوا غير قادرين على التفكير، فإن اكتشاف وتطبيق واستعمال النظام والمنطق والاستقرار سيكون مستحيلاً، وتكوين المجتمع سيبقى احتمالاً غير مؤكد.
لكن حقيقة المجتمعات المنظمة التي تتقدم إلى الأمام بثبات، يعطي مصداقية لفكرة أن العقل هو حقيقي وتقدمي. ومن هنا، قد يدّعي المرء أن الناس المتنورين الذين يعترفون بأن الأوقات تتغير كنتيجة لطبيعتها المؤقتة المتأصلة، يساعد في حركة الأمة نحو الأمام بطريقة عقلانية، ويمنعها من الجمود بالمقارنة مع الدول الأخرى. ولهذا فإن تقدم الأمة يعتمد على المقدرة المتأصلة لدى الناس للنضج إلى فهم واع للتاريخ كعملية من الحركة إلى ما وراء الحاضر تماماً مثلما يتقدم الزمن طبيعياً أو عقلانياً نحو الأمام. أخيراً، إذا لم يكن لدى الناس القدرة للاعتقاد بالتقدم بهذه الطريقة، فإن فهم كل شخص للتاريخ سيكون بلا معنى.
رؤية روسو
من خلال عدسة روسو، فإن معنى المواطن هو الشخص الذي يعلن عن رغبته في صناديق الاقتراع، ليقرر بطريقة تأخذ بالاعتبار رغباته وحاجاته بالارتباط مع رغبات وحاجات المواطنين الآخرين الذين عليهم أن يقرروا وبنفس المستوى العام من الفهم في الذهن. بكلمة أخرى، ربما يستنتج المرء بأن الديمقراطية العاملة تعتمد على المواطنة العارفة والمثقفة أو على أولئك الذين يأخذون بالاعتبار ما هو أحسن لأنفسهم وللآخرين أيضاً. بتشابه أكثر مع فهم كانط للفرد المتنور، روسو، لديه رؤية مشابهة للمواطن أو لأولئك الذين تعتمد عليهم المجتمعات الحرة لمقدرتهم على العمل بالشكل الصحيح. ذلك أن أنواع الحكومات القائمة تكون مجسدة لنوعها، فقط إذا كان شعبها يحافظ عليها. وطبقاً لذلك، في المجتمع الليبرالي، عندما يعكس كل صوت ما هو أحسن للفرد ولبقية المواطنين، فإن أولئك السكان ينجزون معنى شكل الحكم الذي يتبنّونه. وعليه، فإن الفرد المتنور بالمعنى الكانطي أو المواطن الأصيل بالمعنى الروسوي، الذي يأخذ بالاعتبار رغباته ورغبات الآخرين في المجتمع، سوف تناسبه الديمقراطية بأفضل حالة.
أيضاً رؤية روسو للمواطن تماثل العقد الاجتماعي الذي تعتمد عليه الديمقراطية. ذلك أن التضامن الاجتماعي أو تلك الاتفاقية التي يعترف بها الناس والحكومة ضمناً كأساس صلب لمجتمعاتهم الديمقراطية، وحيث يتخلص الناس من الحرية الجامحة للحماية من الحكومة، هي الأكثر ملاءمة للمواطن في المعنى الروسوي.
أولاً، العقد الاجتماعي يستلزم من الجميع الاعتراف بهيئة حاكمة لتحكم باسمهم، والتي هي في النهاية علاقة تفاعلية بين طرفين، إنها العديد الذين يخضعون للقلة. طبقاً لذلك، لكي نحفظ التوازن في السلطة بين الحاكم والمحكومين، فمن الضروري للمحكومين أن يكونوا في تضامن.
وفي النتيجة، المواطن الحقيقي أو الفرد الذي يقرر في ضوء مصالحه ومصالح الآخرين، يساعد للحفاظ على التوازن بالسلطة بين الحاكم والمحكومين، طالما أن الفرد يختار بطريقة تجسد الاتحاد في جماعته أو في عدد من الناس. وعليه عبر التضامن، يمكن للمرء الدفاع عن الحاجة الأساسية لسلطة متساوية بين الحكام والمحكومين، لكي تبقى المواطنة، التي يشكل الفرد جزءاً منها، سليمة من قمع الحكومة. أخيراً، طالما المواطن الصحيح هو الذي يحتفظ بهذه العوامل في الذهن، يتبع ذلك أن مزاجه التنويري يناسب أفضل للديمقراطية أو ذلك الشكل من الحكم الذي يقوم على الاتفاق الاجتماعي.
كذلك، رؤية روسو للمواطن تشبه فهم كانط للفرد التنويري، باعتباره يقرر دون أي إكراه أو قسر. أي أن هناك حالة عامة للذهن موجودة يجب أن ينمو إليها الفرد، وهي ذاتها مع زملائه لأجل الخير العام، روسو وكانط يدّعيان أن ذلك الفرد يجب أن يقوم بهذا بنفسه. من هنا، قد يستنتج المرء أن روسو وكانط يجادلان بأن الفرد المتنور أو المواطن الحقيقي يساعد في الحفاظ على روح أمته أو على الرؤية الثقافية العامة التي يعترف بها كل الأفراد كونها متأصلة ومميزة لبلدهم. ذلك لأن الفرد عبر الاختيار الأصيل للإعلان عن رغبتة بالطريقة التي يراها الأفراد منسجمة مع روح أمتهم، وعبر الأخذ بالاعتبار لذات الفرد وكل الآخرين، فإن الفرد يقوم بهذا حراً ومجسداً الاحترام الحقيقي لأمته. وهكذا، عندما يعتبر المرء رغبته حقاً كقناة لكل من أمان وتقدم الثقافة التي يتميز بها ذلك الفرد ويشارك بها مواطنيه، هو يقوم بهذا بطريقة تناسب الكائن المتنور أو المواطن الحقيقي.
من هنا، قد يدّعي البعض أن رؤية روسو للمواطن هي المساوي السياسي لفهم كانط للفرد المتنور. هذه الدعوة مبررة لسبب واحد وهو أن كل من روسو وكانط يشتركان بالرؤية أن الناس يمكنهم التفكير لأنفسهم ويتصورون التفكير للآخرين. وبهذا، فإن مواطن روسو أو فرد كانط التنويري، يتبنّى الفردية عبر الاعتراف بحق الآخرين للقيام بنفس الشيء، والذي يكون ممكناً فقط من خلال استعمال العقل كمرشد لكيفية التعامل مع الآخرين بشكل ملائم بالمعنى الكانطي، أو بالرعاية السياسية كما يرى روسو.
……..
INQUIRIES Journal for social, Arts, and humanities, 2017, vol 9 No 10
التاريخ: الثلاثاء16-7-2019
رقم العدد : 16025