الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
ما إن دلفت إلى القاعة الرئيسة في ورشة تصنيع الخزف الشهيرة في مدينة (مايسن) الألمانيّة، وشاهدني صاحبي (شتيفان) حتى صاح: ها قد جاء مَن يمكن أن نستأنس برأيه، حول موضوعنا الجديد المقترح الاشتغال عليه في المرحلة القادمة من إنتاج الورشة، لاسيّما وأنه قادم من البلاد التي ساهمت بنسج وإطلاق عوالم كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي كان ولا زال، محط اهتمام وشغف الأوروبيين، لاسيّما منهم الكتاب والفنانين الذين يشتغلون على لغات بصريّة مختلفة.
قادني صاحبي إلى القسم الفني في الورشة التي يعمل فيه ستة فنانين تشكيليين متخصصين بالتصميم والرسم والتصوير وابتكار أشكال وهيئات وتكوينات جديدة، لمنتجاتها من الخزف الفني الرفيع المستوى، والوحيد النسخة قائلاً: جئت في الوقت المناسب، انظر إلى ما بين أيدي هؤلاء الشبان والصبايا من دراسات ومشاريع لتصاميم مُستلهمة، من حكايات وأساطير كتابكم الساحر والشيق (ألف ليلة وليلة) المكتنز على غوايات حسيّة وجماليّة وإبداعيّة خياليّة شديدة التفاعل مع الإلهام، صالحة لكل زمان ومكان، سيكون بعضها من حمولات بنيّة وسطوح خزفيات ورشتنا في المرحلة القادمة.
والحقيقة، لقد أثّرت الليالي على الفعل الإبداعي العام في الشرق والغرب: شعراً ومسرحاً وموسيقى وأدباً وفناً تشكيليّاً وسينمائيّاً وتلفزيونيّاً وتطبيقيّاً، كما أثّرت في اللغات الأجنبيّة المختلفة التي تُرجمت إليها كالفرنسيّة والألمانيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة، هذه الترجمات التي كان قد بدأها المستشرق الفرنسي (غالان) العام 1704، ثم قام المستشرق الألماني (هايخت) بترجمة ثمانية أجزاء من الليالي إلى الألمانيّة قبل وفاته، فقام تلميذه (هاينرش فلايشر) المتوفي عام 1888 بإتمام ترجمتها. كما أثّرت الليالي لاحقاً على السينما والتلفاز والصحافة والفنون التشكيليّة والتطبيقيّة، خاصةً وأن الموضوع في الليالي دعوة من نوع آخر إلى المغامرة وغواية التناقض، حيث الغامض والملوّن والمثير، وهي الأكثر طرباً من المعرفة، ففيها يمتلك السحر كل دوائر الجذب الحسيّة، والطروحات البصريّة الجماليّة التي تلفها الرياح الحارة، فوق رمال من ذهب، وسجادات عربيّة، تتوق إلى عوالم خاصة من متع العقل والحس الملوّنة، في ليل شرقي بهي، مطرز بحجب تتوارى خلفها، رغائب إنسانيّة (حسيّة وروحيّة) لا تضعف ولا تشيخ ولا يخف أوارها، لأنها إحدى القرائن الرئيسة على وجود الإنسان.
هذا التوجه من قبل ورشة بورسلان (مايسن) لاستلهام مناخات وأجواء ألف ليلة وليلة، وإنزالها في تكوينات وكتل منتجاتها من الخزف، أو فوق سطوحها، يأتي ضمن حرصها على تجديدها وتطويرها بشكل دائم، وبالتالي إبقاء هذه المنتجات خارج السائد والمعروف، وإبعادها عن الحرفة المجترة، واعتمادها النسخة الواحدة غير المكررة، وهذا ما يُفسر أثمانها المرتفعة.
و(مايسن) مدينة ألمانيّة جميلة تقع على ضفة نهر (الإلبه) بالقرب من عاصمة مقاطعة سكسونيا (دريسدن) التي تضم ثالث أكبر متحف لوحات في العالم هو (الكميلدي كاليري) وقد أطلق عليها اسم (مدينة الفن والجمال) لطبيعتها الساحرة، ولاحتوائها على العديد من القصور التاريخيّة، والآثار الفنيّة المهمة، كما اشتهرت بمأساتها خلال الحرب العالميّة الثانيّة، حيث قامت الطائرات الأنكلو-أمريكيّة باستهداف القسم الذي يضم المعالم التاريخيّة والحضاريّة المهمة فيها، بالرغم من أن المدينة كانت مُحررة من قبل الجيش السوفياتي الذي قام بإنقاذ الكنوز الفنيّة التي تضمها متاحفها قبل قصفها، وأعادها إليها بعد انتهاء الحرب.
خلال تجوالي ضمن محترفات الورشة، لفت انتباهي وجود رجلين مسنين يقومان برسم شعار الورشة المتمثل بسيفين زرقاوين متقاطعين، على أسفل كل قطعة يتم إنجازها، بوساطة ريشة ناعمة ومحبرة. التفتُ إلى مرافقي متسائلاً: لماذا لا تتم هذه العملية بوساطة ختم حديث، فهو أدق شكلاً، وأسهل تنفيذاً؟ ابتسم وقال: هذا تقليد قديم، وأحد أوجه الأصالة والعراقة التي تحرص الورشة عليها، وتتمسك بها، منذ تأسيسها عن طريق الصدفة. فما هي حكاية (مايسن) وطينها الذي تحوّل إلى ذهب أحمر؟
يقترن اسم (مايسن) بالبورسلان الفني الذي تُنتجه ورشتها الشهيرة منذ عهد قيصرها (أوغست القوي) الذي يعود إليه الفضل في نشوء هذه الحرفة الفنيّة الرفيعة التي أصبحت (ولا تزال) تدر ذهباً على الخزينة الألمانيّة، ولهذا الذهب قصة طريفة بطلها (يوهان فريدريش بوتغر) والقيصر أوغست نفسه. تعود حكاية تحويل الطين في (مايسن) إلى (ذهب) إلى بداية القرن السابع عشر، عندما أوحى بوتغر للقيصر بأنه قادر على صنع الذهب من تربة هذه المدينة. راقت الفكرة للقيصر فسجنه في قلعة حصينة تنهض على ضفة نهر الإلبه ريثما يتمكن من صنع الذهب الذي وعد به. وبدأ بوتغر رحلة البحث والتجريب لينتهي به المطاف إلى اختراع (بورسلان مايسن) من تربة نبيلة ضاهت في قيمتها الذهب، لذلك أطلقوا عليه اسم (الذهب الأحمر) نسبة إلى لون التربة الحمراء التي يُصنع منها البورسلان الذائع الصيت اليوم في أنحاء العالم كافة، وإلى الدخولات الكبيرة التي يُحققها للخزينة الألمانيّة.
السؤال الذي يفرض وجوده هنا: تُرى ماذا كان حصل لو استطاع بوتغر تحضير الذهب صناعياً بالفعل؟ من المؤكد أن هذا الأمر ما كان ليتعارض البتة مع وجود ورشة (مايسن) لصناعة البورسلان الفني، ذلك لأنه منذ بداية القرن السابع عشر، كان يوجد بعض الإخصائيين المناط بهم إيجاد طرق لتحويل التربة النبيلة التي كانت قد حُوّلت في آسيا إلى معدات قابلة للاستعمال، وكانت تُصدّر إلى قلب أوروبا بأسعار خياليّة لكل قطعة، وقد حطت بعض هذه القطع في الأراضي السكسونيّة، وقامت يومها محاولات جادة وحثيثة لتقليدها، لكن هل كان بالإمكان تحقيق ذلك بدون بوتغر؟
موهبة بوتغر الحقيقيّة والكبيرة، ظهرت بعد فشله في تحضير الذهب صناعياً، وقد بدت هذه الموهبة الفذة وكأنها غير مؤهلة لتحضير أو اختراع البورسلان، ومع أول قطعة بورسلان أوجدها بوتغر بشكل سري، قام القيصر أوغست بإعطاء توجيهاته لبناء مصنع للبورسلان في قلعة (مايسن) عام 1710. وعلى الرغم من السرعة الفائقة التي أبداها العاملون مع بوتغر في الحصول على منتج من البورسلان القاسي، وعلى الرغم من توفر الرغبة والخلطة اللازمة لتحقيق هذا المنتج، والأفران اللازمة لشي الطين، والمستلزمات التقانيّة الأخرى، إلا أن شيئاً ما كان ينقص هذه التحضيرات لتتم ولادة هذا المنتج السحري، بالشكل الصحيح والسليم، وبالمواصفات المطلوبة.
هذا الشيء المفقود أو الناقص، لم يكن موجوداً على ضفاف نهر (الإلبه) الذي ينبع من سفوح جبال الألب السويسريّة، ليصل إلى (دريسدن) فـ(مايسن) عن طريق (براغ) ليُنهي رحلته في بحر البلطيق عبر مدينة هامبورغ. ولا تحت أقدام قلعة Alberchtsburg وإنما كان هو (الزمن). نعم الزمن هو المادة السحريّة اللازمة لنجاح عملية الولادة. فقد اكتشف بوتغر أنه من الضروري (خاصةً للقطع الخزفيّة المنفوخة) تركها فترة من الزمن لترتاح قبل إدخالها إلى الفرن، من أجل عمليّة شيها، ومن ثم القيام بتزيينها برسوم وأشكال وألوان مختلفة، وكانت كل قطعة أصليّة غير قابلة للنسخ والتكرار، وكأنها لوحة من لوحات بيكاسو الذي استلهم هو الآخر فنوننا العربيّة والإسلاميّة، وها هو بورسلان (مايسن) الأشهر في العالم، يرد النبع إياه، باستلهامه حكايات (شهرزاد) التي أمضت ألف ليلة وليلة وهي ترويها (لشهريار). هذه الحكايات التي يحلو للغرب تسميتها (الليالي العربيّة) تعود إلى القرون القديمة والوسطى لكل من الحضارات العربيّة والفارسيّة والهنديّة، كانت في الأساس قصصاً شعبيّة في عهد الخلافة وأشهرها: علاء الدين والفانوس السحري، علي بابا والأربعين حرامي، رحلات السندباد البحري السبع وغيرها، قام الخيال الشرقي الخصب، بتحويلها إلى أساطير وحكايات معجونة بالغرابة، ومفعمة بالدهشة، ومزنرة بالحكمة، وبالتالي إلى معينٍ لا ينضب لإبداعات أدبيّة وفنيّة، يتردد صداها في العالم أجمع.
التاريخ: الثلاثاء16-7-2019
رقم العدد : 16025