رغم مرضه الشديد كان يصر على الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة الثقافية، ربما لسان حاله كان يقول: «أنا موجود ولازلت أعمل في بيع الكتب النادرة منها أو الاعتيادية» وليست بعيدة تلك اللحظة التي التقيته فيها في مركز ثقافي «أبو رمانة» وعندما سألته عن سر غيابه، بدأ يشرح لي بإسهاب عن وضعه الصحي الذي بات يسوء كل يوم وأنه خرج من المشفى حديثا، كانت قسماته تنبىء بألم يعتصر فؤاده ولكنه يأبى الهزيمة أمام ذاك المرض الذي ألم به.
ودعته ولم أكن أتوقع أن يكون هو الوداع الأخير لرجل استطاع أن يروّض الحياة كما يشاء، فلم يهزمه الإرهابيون رغم أنهم اغتصبوا منزله ومستودع كتبه ذاك الكنز الذي يضم آلاف الكتب والمجلات النادرة، وتنقل في مجالات عديدة متكئا على مااكتسبه من عالم الكتب فخاض مجال التمثيل والكتابة والتوثيق، وبيع الكتب والمجلات، واستطاع أن ينتزع صداقة الكثير من المثقفين والمهتمين بعالم الكتب، ولم تكن» كتبه التي يعرضها تحت» جسر الرئيس» إلا منهلا لعاشقي الكتب على اختلاف أنواعها ماأكسبه شهرة وصيتا طيبا لديهم حتى نال لقب «وراق دمشق».
ولم تكن رحلته في الحياة شائقة، فهو ينتمي إلى بيت بسيط، فوالده يبيع الهريسة على العربة ويلفها في ورق المجلات والصحف، التي لم يدرك صلاح أنها ستكون ليس فقط مصدر رزقه، بل عالمه بكل تفاصيله.
وربما كان لذاك الزبون الذي طلب أن يشتري بعض المجلات المعدة لتغليف قطع الهريسة الأثر الكبير في توجهه نحو القراءة وجمع الصحف والمجلات التي كان يبيعها أصحابها حتى أصبح هذا الأمر هاجسه وبات يملك في مستودعه الآلاف منها، واستطاع أن يستقطب الكثير من عشاق الكتب وفي الآن نفسه الكثير ممن يبيع كتبه، ليحصد في النهاية علاقات هامة وعالما يعشقه وأدمن تداول الكتب بيعا واقتناء ليحتل مكانته في القلوب بابتسامته التي لاتفارقه وحسن معشره وطيب قلبه.
والمفارقة العجيبة أن صلاح صلوحة ورغم كل ماذكرناه لم يحظ بالاهتمام والرعاية، ولم يأخذ حقه من تسليط الضوء على جهوده في التوثيق، رغم أنه يمتلك أرشيفا كبيرا للمجلات الفكرية والأدبية القديمة التي يحتاجها الطلبة والباحثون والدارسون، ولم تتبن جهوده مؤسسة ثقافية أو دار نشر، للاستفادة من بعض الكتب النادرة لديه ومحاولة إعادة طباعتها وتقديمها لجمهور الباحثين.
كان يعمل بجد من أجل أن يقدم كنوزه إلى القارىء رغم إيمانه بأن عالم التكنولوجيا والانترنت سرق الكثيرين من متعة القراءة في الكتاب، فأقام المعارض وضمنها العديد من الوثائق النادرة التي جمعها على مدى سنوات طويلة، وهي تعتبر من أهم مصادر البحث والتوثيق في مجالات العلوم والآداب كافة.
حاول أن يصارع المرض طويلا وربح في جولات عديدة، لكن الموت لم يمهله كثيرا، ولكنه لم يتقبل فكرة ابتعاده عن كتبه صديقة دربه ومؤنس وحشته، فأوصى أن تدفن معه خوفا من العبث بها وهدرها أو رميها بعيدا عن عيون عشاق الكتاب.
في محراب الرحيل نتمنى أن نعود إلى أجندة المبدعين في بلادنا وقد طوى النسيان ذكراهم لنعيدهم إلى الحياة من جديد عبر تكريمهم أو إعادة طباعة إرثهم الإبداعي، لخلق ذاك التواصل مع الأجيال، إنهم كبارنا وبصماتهم مصابيح مضيئة في عالم الفكر والأدب والثقافة.
الرحمة والسلام لروحه، ستذكره أرصفة دمشق، وستفتقده المكتبات، ولكنه في كل يوم سيولد من جديد، مع كل كتاب يحط الرحال على الأرصفة، في دعوة لإحياء مكتبات الرصيف لأنها تشكل رافدا هاما للمكتبات العامة، ومرجعا للوثائق والكتب الثمينة والنادرة.
فاتن أحمد دعبول
التاريخ: الاثنين 22-7-2019
الرقم: 17029