« نحن نقدّم لهم صورة عن أصل يعرفوه، فإن لم نفتح نافذة في عقولهم ونافذة في قلوبهم لا نكون فعلنا شيئاً».
هي الكلمات التي قالها كاتب العرض المسرحي في (الاعتراف)، الفيلم الأحدث لباسل الخطيب، موجّهاً انتقاده للمخرج وهو يغادر المسرح مستاءً بعد مشاهدة بروفة العرض، وفي عمق الحقيقة فإن هذه الكلمات تمثّل النهج الذي اتّبعه باسل الخطيب في سلسلة أفلامه، وخاصة تلك التي صنعها زمن الحرب، بحيث تكاد تكون مقولة (الكاتب المسرحي) في الفيلم، بياناً فنياً ذاتياً عن تجربة المخرج السينمائي في الواقع.
تقوم بنية فيلم (الاعتراف)، كما هو حال أفلام الخطيب منذ رائعته مريم (2012)، على حكايات قد يكون لها أصلها الواقعي، أو قد تكون من الواقع المتخيّل، ففي الحالتين هي تتشابه مع حكايات ووقائع كثيرة جرت على الأرض، وتلتقي جميعاً عند إطلالة على نتائج الحرب ضد المجتمع السوري، من خلال حالة أو حالات قليلة، تُمثّل نموذجاً أو رمزاً يقدّم رؤية المخرج وأفكاره ضمن إطار بصري متقن على قدرٍ كبيرٍ من جمال المشهد وقوة التعبير في آن واحد، فلا يكون أحدهما على حساب الآخر.
وقد تكون هذه هي النقطة الأكثر قوة وتميّزاً في مجمل تجربة باسل الخطيب (السينمائية، والتلفزيونية)، فهو مع عنايته الفائقة بالصورة في كل مشهد، فإن الصورة لا تتحوّل إلى جمال سطحي أو مجاني، وإنما تملك على الدوام دلالاتها التعبيرية والفكرية و الرمزية، بما في ذلك المشاهد الطبيعية الساحرة، في خلفية الوقائع القاسية والأحداث المأساوية، حيث يعمّق هذا التباين، إلى حد التناقض، الإحساس بالفقدان والخسارة، والظلم كذلك.
رمزية أعمال باسل الخطيب لا تتناقض مع واقعيتها (حقيقية أو متخيلة)، لأنها تختار من الواقع ما يتناسب مع الرمز الذي سيقدم مقولة العمل، أو إحدى أفكاره، وفي (الاعتراف) تُفسّر رمزية الأب نفسها عبر حديثه هو عن عمله كمسّاح، وعلاقته بالأرض وحماية حقوق أصحابها، ويتلاقّى عمله مع أخلاقياته الشخصية التي تدفعه، دون أدنى تردد، لحماية إنسان لا يعرفه، دون النظر إلى ما سيكلفه هذا السلوك من تضحيات تبدأ بتمزق عائلته، ولا تنتهي عند فقدان ولده نتيجة موقف إنساني مشابه، وربما مماثل. يبدو هذا السلوك المنبعث من مفاهيم أخلاقية غير مفهومٍ حتى لأقرب المحيطين به، لزوجته ومن ثم زوجة ابنه، اللتين لا يدينهما الفيلم، وإنما على العكس تماماً يتعاطف بجلاء مع معاناتهما الإنسانية، لكنه يدين المفاهيم الاجتماعية التي تحكم طريقتهما في التفكير، والفعل.
دون انزلاق إلى الإثارة الخفيفة، ينجح باسل الخطيب في الحفاظ على قوة التشويق في فيلمه، باختياره تسلسلاً للأحداث يضع المشاهد أمام أسئلة غامضة، وأجوبة متشككة قبل أن تنجلي الحقائق مع مرور الوقت، ليعيد المشاهد ترتيب التفاصيل الصغيرة صانعاً منها المشهد العام المتكامل الذي سيرافقه لوقت طويل بعد مغادرة صالة العرض، ومحتفظاً في عمق ذاكرته أيضاً، بكثير من التفاصيل الصغيرة الحميمة والجميلة والمعبّرة ببراعة.
الجانب الآخر البالغ الأهمية في سينما باسل الخطيب موهبته في اختيار الممثلين بما يحقق أعلى تناغم بينهم وبين الشخصيات التي يؤدون أدوراها، مهما كبر هذا الدور أو صغر، ومهما كانت مساحة حضور الشخصية في الفيلم، وتأثيرها في أحداثه. تستحضر الذاكرة هنا مشهداً لغسان مسعود في مسلسل (أيام الغضب) أحد بواكير أعمال الخطيب التلفزيونية (1997)، يصور رجلاً ريفياً يتأمل بفرحٍ رضي الزيت المنساب من معصرة زيتون، متوجّاً جهد موسم طويل من العمل والجهد.
ومع أن غسان مسعود لا ينطق في هذا المشهد الذي يمتد عدة دقائق بكلمة واحدة، غير أن تعبير وجهه يحكي كل شيء، وهو ما يفعله اليوم بعد اثنين وعشرين سنة من تنامي الخبرة وغنى التجربة، وصقل الموهبة. ففي أدائه الاحترافي البارع ينجح غسان مسعود في منح شخصية المسّاح طاقتها التعبيرية الرحبة، عبر لغة الوجه، ولغة الجسد بآن واحد.
ما ينطبق على غسان مسعود ينطبق على روبين عيسى، ففي حضورها، الصامت في أغلبه، يحكي تعبير وجهها كل ما يمكن أن تحكيه امرأة مرتابة ومتوجسة ومحبطة، خاصة في اللحظات التي تغادر بيتها إلى المجهول، فيما تبدو ديمة قندلفت في دوري البنت والأم في واحدة من أفضل حالات تجسيدها للشخصية (للشخصيتين) بعمق وإقناع كبيرين، بعيداً عن الأداء الانفعالي النمطي. و تمنح كندة حنا شخصية زوجة الابن ما تحتاجه من دفء وعاطفة وقلق، وهذا ما فعله أيضاً وائل أبو غزالة في تحولات شخصيته.
أما محمود نصر فإن حضوره في الاعتراف وأداؤه الدافئ لشخصية الابن جاد يؤكد أن خيار باسل الخطيب كان خياراً صحيحاً عندما أسند له دوراً رئيساً موازياً، مع أنه لم يكن خياراً مستغرباً بعد أن أشركه الخطيب في غير عمل تلفزيوني وسينمائي، وبعد أن أثبت محمود كفاءة وموهبة متميزتين أهلتاه لينال جائزة أفضل ممثل شاب بعد وقت قصير من تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية من لجنة ضمّت مخرجين وإعلاميين ونقّاد.
والحديث عن الموهبة الشابة يستدعي الحديث عن موهبتين شابتين شاركتا بشكل مؤثّر في الاعتراف رغم صغر مساحة دور كل منهما: فارس ياغي بدور المجند، وحسن دوبا بدور ابن زعيم العصابة، فالأول أدى دوره بإقناعٍ بعيدٍ عن البطولة الأسطورية، والثاني أدى دوره بإقناع مغايرٍ للنمطية التقليدية التي كثيراً ما جنحت نحو مبالغة تمحو تميز صاحبها.
الاعتراف وثيقة إبداعية بصرية عن الحرب التي شنت على المجتمع السوري. وأهم ما فيها روح الإبداع الكامنة في كل تفصيل منها.
www.facebook.com/saad.alkassem
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 23-7-2019
الرقم: 17031