هل حقاً «أفكارنا تشبه الطريقة التي نربط بها حذاؤنا»؟، لعلها فكرة سديدة تجعلنا نحاسب ذواتنا لنتأكد ماهيتها، تساؤلات عدة تدور في فكر القارئ وهو يخوض غمار الرواية العالمية «غرفة يعقوب» الصادرة عام 1922 ملامسا للواقعية التي عايشتها أهم الرموز الأدبية في القرن العشرين كاتبتها الإنكليزية «فرجينيا وولف»، رواية مفعمة بالنضوج الفكري والعاطفي في آن، فكما كتبت ذات مرة في مذكراتها «أعتقد أنها أكثر الروايات التي كتبتها تسلية»، حقا كانت، بل وكان الإرهاص الذي تنبأ بانتحارها بعد غرق أخيها «طوبي» الذي قمصته شخصية «يعقوب فلاندرز»، مقتنعة أن التواجد على قيد الحياة مأزق لابد من الخروج منه منتصراً!.
يعقوب ابن السادسة والعشرين رجلاً ريفياً ساذجاً قارئاً للحب فهو تلميذ «بايرون»، كان فتى رقيقاً وطويلاً وفاقد الإدراك، صورته الكاتبة كشخصية ألسيست في مسرحية لوميير، على لسان «ساندرا» القادرة على خداعه كامرأة متزوجة، رغم أنها تراه طفلا حافظ على براءته، لكن بعد حين تظهر مشاعره بوجود شخصيتين أساسيتين هما «كلارا دوران وفلورندا» الطالبة التي عاش قصة حب معها، ومع هذا يبقى هاجسه الموت «كان يعقوب دقيقا ومجتهدا لكنه مفعم بالكآبة والنكد».
هي رواية شيقة ومثيرة في حوار الشخصيات وليس الأحداث، فذروتها في الحبكة الثانية وهي اللحظة التي يكتشف فيها البطل طبيعة العقدة المقدمة في الرواية أي الصراع وعلاقتها بحياته ويطلق عليها «لحظة الكينونة» كما سمتها وولف، وفيها تضع جميع العلاقات في الرواية بين الخير والشر وقد لا يعرف البطل كيفية حل هذه العقدة لكن كل شيء وكل معلومة تتضح أمامه في هذه المرحلة من الرواية. تميز «يعقوب» الذي عاش في لندن ثم انتقل إلى إيطاليا ثم إلى اليونان بفكره المتنور وخياله الواسع المستمد من الواقع ووصفه للأشياء «مدينة أثينا لاتزال قادرة على جذب أنظار الشباب كأغرب تجمع حضري، كمكان يضم أكبر تشكيلة من الأشياء معا فهي مرة ضاحية وهي مرة أخرى مدينة خالدة في بعض الأحيان تعرض في المدينة تشكيلة من الجواهر العالمية الرخيصة على أطباق مبطنة بقماش مخملي وفي أحيان أخرى تنتصب كامرأة ترتدي تنورة مشمرة فوق الركبتين».
اجتهدت الكاتبة في ولادة بنات أفكارها دون إجهاض لأي فكرة حتى لو كلفها اللعب والمواربة في إظهار الشخصيات، فأبدعت في اللغة الشاعرية والوصف الوجداني للمكان الذي يضفي على القصص روحانية ما، وكأنها تخلق فسحة يهرب القارئ فيها إلى حنينه فيتعايش مع أحداث الرواية وكأنها حقيقة «نور الشمس اللامع المتطفل المدرع زائر نهاري رائع ابتعد من زمان بعيد جداً عن الفوضى، وجفف ضباب القرون الوسطى الكئيبة، ضوء الشمس هو الذي أخذ رطوبته المستنقعات واستبدل بها الزجاج والحجارة وهو الذي يمنح عقولنا وأجسامنا دروعا مقاومة، فمن الواضح أن فرساً جموحاً يسكننا، سواء قبلنا أم لا، الفرس في داخلنا يحثنا على الركض المجنون، أن نقع منهكين على الرمل، فنشعر أن الأرض تدور بنا ونظل نغذّ السير بموافقتنا لتكوين علاقات صداقة مع الحجارة وكأن الإنسانية قد تلاشت فليذهب الناس إلى جهنم ذلك أنه من الصعوبة أن نقفز على حقيقة أننا غالبا ما نكون رهينة هذه الرغبة الجارفة فينا (الهيام بالطبيعة).
انطباعات شخوص الرواية وإرهاصات «فرجينيا وولف» شكلت هيكلاً جميلاً والشخصيات المساعدة أو الثانوية رغم كثرتها إلا أنها أكملت بناء الرواية وأحداثها، كل منها في دورها لكن تنتصر فيها النفس التواقة إلى الانعتاق كل بحسب العقدة التي شكلتها الكاتبة ثم محاولة حلها، «يعقوب يكتب ملاحظاته عن أهمية التاريخ عن الديمقراطية كإحدى المسائل الحيوية لبناء حياة الناس، وقد تسقط من كتابه بعد عشرين سنة، ولا يمكن لأحد أن يتذكر منه كلمة واحدة، وهذا مؤسف ومدعاة للألم إلى حد ما، من الأفضل لو بقيت الديمقراطية شعلة متقدة».
أُسرت «وولف» بزرقة المياه التي أغرقت «طوبي» ما جذبها لنهاية حزينة مماثلة اختارتها متقصدة مع كومة من الحصى في نهر أوس القريب من منزلها.
«في بلاد اليونان كل تلة مقطوعة ومكتملة تماما، وقلما تنعكس تضاريسها الخاصة في مياه البحر الزرقاء المتلألئة، بلاد اليونان هي المكان الوحيد الذي يتيح للإنسان تحصين نفسه ضد أمراض الحضارة «.
وهنا نسأل هل الحضارة مرض؟ وهل الرواية كانت مسلية؟ كما ظنت كاتبتها التي اهتمت بمقاييس تقييم شخوصها؟ «حين يقولون إن محاولة فهم الشخصية إنما هي تسلية تقنية، روتينية يجلس جنب النار مسألة لعب بالدبابيس والإبر، بهدف تكوين مساحة محددة حول مساحة فارغة، زخارف وخربشات لا أكثر ولا أقل».
تترك رواية «غرفة يعقوب» الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب ترجمة شاهر حسن عبيد في فكر القارئ باب التفكر مشرعاً، في رواية حقبتها القرن الثامن عشر أي أكثر من مئة وخمسين سنة تقريباً، حين كان للغرف أشكال لطيفة، ففي نهاية الرواية والتي تقصدت كاتبتها أن تبقى مفتوحة، لا يبقى إلا حذاء يعقوب في غرفة السيدة «وايتهون» مالكة الغرفة التي كان يسكنها، وتبقى رسائله المبعثرة هنا وهناك ليقرأها من يشاء متأثراً بما كتبه شكسبير «ظلي معلقة هناك بقلبي كما الثمرة أيتها الروح».
رنا بدري سلوم
التاريخ: الخميس 1-8-2019
الرقم: 17039