الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
يبحث كتاب (تاريخ التصميم الغرافيكي) لمؤلفه الدكتور أحمد يازجي، في كل ما يتعلق بفنون الغرافيك منذ تعرف إنسان الكهوف على أولى إشاراته البدائيّة قبل الميلاد بنحو 2700 سنة وحتى مرحلة التصميم بوساطة الحاسوب، ووسائل الدعاية التفاعليّة والإنترنت والشبكة العالميّة في وقتنا الراهن، مؤكداً على أن الاتصال البصري visual communication بمعناه الواسع، له تاريخ طويل يعود إلى يوم كان الإنسان يصطاد للحصول على الطعام.
ولكي ينجح في الصيد، كان يقتفي أثر أقدام الحيوانات في الطين، وهو بذلك ينظر إلى علامة (غرافيكيّة)، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن ملامح التصميم الغرافيكي بدأت من نظرة الإنسان هذه التي تعكس توقه إلى البحث والاكتشاف، مستخدماً كل حواسه (وخاصة البصريّة) لردود أفعاله تجاه الأحداث التي تواجهه، ومعبراً عما يشغل فكره بوسائله البسيطة ومن بينها التعبير بالرسم الذي ابتكره ليكون وسيطاً بينه وبين الطبيعة.
لقد ظهرت ملامح الغرافيك منذ بدأ الإنسان البدائي يسجّل على جدران الكهوف ما يشغل فكره من أحداث متعلقة بالصيد والسحر، وكانت الأهداف الأساسيّة منها مقدرتها على جذب وتملك الشيء المرسوم بحد ذاته، فالرسم كان من أجل التشخيص والحضور للشيء المشخص، وكان في نفس الوقت الرغبة لجمعهما في لحظة واحدة.
وعند التحدث عن ملامح التصميم في هذه العصور البدائيّة القديمة، نلاحظ أن الإنسان كان يُعبّر عن شخصيته من خلال الرسومات والأدوات التي يصنعها، وكانت هذه الرسوم والفنون لها أهداف وأغراض دينيّة واجتماعيّة كرموز لآلهة لتقديسها وعبادتها لتحميهم من الشرور، أو رسوم لحيوانات لتحميهم من الشرور، وتخليداً لذكرى صيدها. وتشير الأدوات التي استخدمها في تلك الفترة إلى خطوات الإنسان الأولى نحو التحضر.
إن الصياد والرسام في العصر الباليوليتيكي كانا يعتقدان عند تشخيص شيء ما، بأنهما قد وضعا أيديهما على هذا الشيء وامتلكاه، وكانا يعتقدان بأنهما سيطرا على الشيء عن طريق تجسيد صورته، لكن هذا لا يعني أبداً رمزاً ميتافيزيقياً، وإنما كفعل ذو هدف محدد، هو فعل التشخيص البصري، وإسقاط الصورة التي تُحدث السحر.
يشير الكتاب إلى أن إشارة الغرافيك موجهة إلى الرؤية أو البصر، وهي تخضع لقوانينه. فهي إشارة أحادية، وهي أبسط جزء من الصورة، فتتابعها وتكرارها تأخذنا إلى قيم ماديّة مباشرة للصور، وإلى معانٍ ضمنيّة وثقافيّة. والمعاني في الصور والرسوم الغرافيكيّة محددة ومتعارف عليها بشكل مسبق قبل الشروع في العمل والتنفيذ، لذلك يُعد الرسم الغرافيكي إحدى الوسائل البصريّة المهمة التي تركت أثراً هاماً في حياة الإنسان، وما حصل عليها من تطورات في مفاهيمها باستخدام نظريات ومبادئ وأسس وأحاسيس جماليّة ساعدت على تقديم الشكل والأداة المعبرة والجميلة للإنسان.
يتتبع الكتاب الملامح الغرافيكيّة عند الإنسان القديم، وفي الحضارات الكبرى كالفرعونيّة والفينيقيّة والإسلاميّة وعند الميزوبوتامبا، ويقف عند نشوء الحرف اللاتيني بعد وصول الكتابة الفينيقيّة إلى أرض اليونان الذين طوّروها وأعطوها أشكالاً جديدة بعد مرورها بعدة مراحل، وصولاً إلى فن الغرافيك في عصر النهضة واختراع الطباعة وظهور الصحف على يد هانز غونتبرغ منتصف القرن الخامس عشر، ثم ظهور الإعلان والملصق والرسوم الإيضاحيّة في الكتب، وولادة فن الحفر والطباعة الذي هدف إلى تكرار العمل الفني الواحد بهدف النشر والاتصال والنقل، وتتم الطباعة هذه بوساطة سطح خشبي أو حجري أو معدني، وقد انعكاس ذلك على تطور فنون الإعلان، ثم يتحدث عن علاقة الغرافيك بالمدارس الفنيّة كالمستقبليّة والدادائيّة.
بعدها يفرد الكتاب فصلاً كاملاً لنشأة الملصق والشعار أو الرمز (اللوغو) والتايبوغرافيا، مشيراً إلى أن الملصق The Poster يُعد من المطبوعات الأساسيّة في التصميم الغرافيكي، وله دور مهم في تطوير التصميم الإعلاني، حيث بدأ مع كبار الفنانين التشكيليين، وعومل بوصفه لوحة فنيّة بالرغم من الجانب الوظيفي الذي يؤديه، ولذلك فقد تأثر الملصق بمختلف المذاهب والتيارات الفنيّة التي سادت في أوروبا وأمريكا، كما أثرت فيه التطورات المذهلة في ميادين التصوير الضوئي والطباعة والتيبوغرافيا.
أما تصميم اللوغو فقد ازدهر بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث اتجه الإنتاج الاقتصادي نحو السلع الاستهلاكيّة، فاهتم العديد من الناس ببناء الاقتصاد الرأسمالي الذي رأوا فيه قوة اقتصاديّة لا تنتهي، ومن هنا أصبح هناك مفهوم جديد للتصميم الغرافيكي عملاً بمقولة: تصميم جيد يعني عمل جيد.
على هذا الأساس، ارتبط التطور التكنولوجي بشكل وثيق، بكبرى الشركات التي أدركت الحاجة لتطوير صورة تعكس مضمون الشركة وهويتها بين المستهلكين، وكان التصميم الغرافيكي الوسيلة الرئيسة لتكوين سمعة الشركة وبناء الثقة بينها وبين الجمهور، غير أن استعمال العلامات البصريّة للتعريف بالأشكال ليس بالشيء الجديد، ففي العصور الوسطى كان لكل تاجر علامة معينة أو شكل، وكانت العلامات تُستخدم للتعريف بنوعيّة المنتجات أو للتعريف بالجهة التي تُنتجها.
وفي عصر الثورة الصناعيّة التي فتحت أبواب الإنتاج الهائل على مصراعيه، ازداد الاهتمام بالعلامات التجاريّة للتعريف البصري من جهة، ولتمييز منتجات الشركات من جهة أخرى، وقد توضحت استخدامات التعريف البصري في بداية القرن العشرين.
وأفرد الكتاب فصلاً للتصميم الغرافيكي في النصف الثاني من القرن العشرين في عدة دول، وتوقف عند الملصق البولوني المتميز، وملصقات الاحتجاج ضد الحرب الأمريكيّة في فيتنام، وصولاً إلى التصميم في السبعينيات وما بعدها، والتأثيرات الدوليّة على فنون الغرافيك الوطنيّة، والتصميم الحديث في عدد من الدول الأوروبيّة، واستفاض في الحديث عن الشكل المفهومي The Conceptual Image والتصميم في مرحلة ما بعد الحداثة، والموجة الجديدة في التايبوغرافيا، والتعابير الطباعيّة الحديثة، والملصق المفهومي الجديد، والمفيس، ومدرسة الباو هاوس وسان فرنسيسكو، وصولاً إلى الثورة الرقميّة وما بعدها، والتصميم بالحاسوب، وأصل التصاميم الغرافيكيّة باستخدام الحاسوب، ورواد هذا الفن المعاصر، وعملية إحياء تصميم المجلات، ووسائل الدعاية التفاعليّة والإنترنت والشبكة العالميّة، حيث يمكن الوصول إلى مواد الإنترنت بطريقة سريعة، اعتماداً على برامج متطورة كبطاقات الإنترنت في ماكينتوش، ووسائل الدعاية التفاعليّة التي تُدعى الهايبرميديا، والهايبرتيكس، والاتصالات السمعيّة والبصريّة والسينمائيّة المتصلة ببعضها البعض لتشكل مجموعة متجانسة من المعلومات. فقد تحوّلت الحواسيب الشخصيّة اليوم إلى عالم رحب يمكن من خلاله التحكم بالنص والأشكال، ما حوّلها إلى ميدان لكل مصمم. بمعنى أن ميدان اللعب في هذا المجال لم يعد حكراً على عدد قليل من الأفراد، وإنما أصبح متاحاً للجميع، ذلك لأن مواد الإنترنت هي نصوص وصور على شاشة الكمبيوتر، تحوي بدورها روابط لنصوص أخرى تظهر بسرعة من خلال وضع المؤشر على الكلمة الرئيسة أو الأيقونة والضغط على زر الفأرة، ويمكن الوصول إلى مواد الإنترنت بطريقة سريعة.
لقد أصبحت الشبكة العالميّة الموجودة في كل مكان، وسيلة سهلة لتنظيم الوصول إلى محتويات الإنترنت الواسعة والمتزايدة باستمرار، بما في ذلك النصوص والأشكال والصور المتحركة والفيديو. تم تطوير هذه الشبكة لأول مرة عام 1990 من قبل العالم الفيزيائي تيم بيرنرز لي الذي يعمل في المنظمة الأوروبيّة للأبحاث الذريّة في جنيف في سويسرا، وقد طوّر الأعمدة الأساسيّة الثلاثة للشبكة وهي برتوكول نقل مواد الإنترنت، ولغة تكوين مواده، وتخصيص عنوان لكل ملف على الشبكة، وهي عبارة عن كلمات أو أيقونات أو أشكال ملوّنة موضوع تحتها خط، تربط العناصر في إحدى الوثائق بوثائق أخرى موجودة في أي مكان على الشبكة.
التاريخ: الثلاثاء3-9-2019
رقم العدد : 963