داود القرم الفنان الكلاسيكي الرائد

الملحق الثقافي:د. محمود شاهين :

 يتفرد كتاب (داود القرم 1852- 1930) لمؤلفته ندين ح. محاسب بجملة من الخصائص الفنيّة (عدا ورقه الممتاز، وطباعته الفاخرة، وإخراجه وتجليده الراقي، والجيب المتميز الذي احتواه) منها: النصوص التي ضمها، وتركيزه على أعمال هذا الفنان التشكيلي اللبناني الرائد، وتقديمه من قبل أحد رؤساء لبنان السابقين.
والكتاب موضوع بكافة نصوصه وشروح صوره ولوحاته وتواريخه باللغتين العربيّة والإنكليزيّة. كما ذيلت لوحاته بسيرة كاملة عنها، تضمنت اسم المرسوم فيها، وقياسها، ومكان وجودها، ونوع الألوان المنفذة منها، وتاريخ إنجازها، وهو أمر نادر الحدوث فيما يُنشر من كتب تتعلق بالفنون التشكيليّة العربيّة المعاصرة. ولأن الفنان القرم من الرعيل الأول، فقد تطلبت عملية تجميع أعماله الفنيّة، وسيرها الذاتيّة، جهوداً كبيرة، س

 

 

اهمت فيها شخصيات اعتباريّة رفيعة، ومؤسسات مجتمعيّة ودينيّة وإعلاميّة لبنانيّة وسوريّة، إضافة لأحفاد الفنان.

مسيرة رائد
بعد مقدمة الكتاب التي كتبها شارل حلو رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة الأسبق، وبيّن فيها أهمية هذا الفنان الرائد، بّينت مؤلفة الكتاب ندين محاسب الدوافع التي حرّضتها على البحث في سيرة هذا الفنان، برغم المعلومات الضئيلة، والمراجع شبه المفقودة. مع ذلك أخذت على عاتقها إزالة ستار الليل الحالك الذي يخيّم على أعمال داود القرم، فهو فنان تستحق أعماله كشف النقاب عنها، وكذلك سيرته الفنيّة.
ولد الفنان داود القرم في بلدة غوسطا (كسروان) في 26/6/1852 وتوفي في 6/6/ 1930. درس الفن في الأكاديميّة الفنيّة الملكيّة بروما، انتقل بعدها إلى بلجيكا ليعين رسام الأسرة المالكة البلجيكيّة في عهد الملك ليوبولد الثاني. بعدها انتقل إلى بيروت، وكان يتنقل بين سورية وفلسطين ومصر والعراق وتركيا ليرسم (بورتريهات) لكبار القوم والمتنفذين فيها من ملوك وخديويات وأمراء وتجار ورجال دين وغيرهم.

للفنان القرم لوحة شهيرة في متحف دمشق الوطني تحمل عنوان (السيد الزنانيري) منفذة بالألوان الزيتيّة عام 1879. شغل الزنانيري منصب (شيخ التجار) في دمشق، وكان من الميسورين والمثقفين في آنٍ واحد. قام متحف دمشق الوطني بشراء اللوحة من السيد إبراهيم عبد الله الزنانيري بمبلغ 2000 ليرة سوريّة عام 1973 وهذه اللوحة هي الأقدم في قسم الفن الحديث في متحف دمشق.
يُعتبر داود القرم رائد فن الرسم في لبنان. كان هذا الفن من قبله مجرد موهبة فطريّة، فهو أول من درس قواعده وأصوله الأكاديميّة، ونقلها بالتالي إلى العديد من رواد الفن التشكيلي اللبناني المعاصر أمثال: جبران خليل جبران، حبيب سرور، مصطفى فروخ، قيصر الجميّل وغيرهم.
المرحلة الإيطاليّة

 

يُصنف عصام خير الله رئيس محترف الترميم في معهد الفن المقدس بجامعة الكسليك بلبنان مسيرة الفنان داود القرم بمرحلتين: الأولى إيطاليّة، والثانية لبنانيّة. الأولى هي مرحلة الدراسة والاطلاع والاغتراب في إيطاليا التي كانت تشهد أثناء وصوله إليها العام 1870 تحولاً جذرياً، حيث كان الفنانون التشكيليون يقومون بأحدث المحاولات للانطلاق إلى عصر جديد من التعبير واللغة الفنيّة. فقد بدأت الحركات الفنيّة الثوريّة بالظهور وأهمها: المكيايولي والسكابيلياني والفتوريسي. وكانت الحركة الانطباعيّة في إيطاليا آنذاك في أوجها.
عاش داود القرم كل هذا المخاض، وعاش نتائجه السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وأخذ الموقف الصريح والمضاد لحركات التغيير، وبقي صادقاً وأميناً للنيوكلاسيكيّة أو الواقعيّة الكلاسيكيّة.
يرى عصام خير الله أن لهذا الخيار الذي اتخذه داود القرم سلبياته وإيجابياته على تجربته الفنيّة. فمن سلبياته أنه حدد بشكل تام ونهائي أعماله ضمن مسار كنسي ديني، ولم يبحث عن موضوع آخر، سوى في بعض الحالات النادرة والجانبيّة. فالمعروف عن الاتجاهات التي تبناها أنها كانت من خيار الكنيسة الرومانيّة الإيطالية، ومن العشرينيات إلى الحرب العالمية الثانية، كان خيار الفكر الفاشي الثقافي والفني والتربوي والاجتماعي. أما إيجابيات اعتماده هذا الأسلوب أو الاتجاه، فهي منحه رغبة تنمية قدراته التقانية، وإبعاده عن الفوضى في مخاض الصراع الإنساني الذي كلّف البشريّة مآسٍ كثيرة، وتحولات دراماتيكيّة.

 

 

 

المرحلة اللبنانيّة
يحدد عصام خير الله بداية المرحلة اللبنانيّة في تجربة الفنان داود القرم بالعام 1878 (وهو العام الذي عاد فيه إلى لبنان) ويصفها بأنها كانت نهباً للآفات الاجتماعيّة كالجهل والفقر والبؤس وصراع البقاء. وفي هذا المناخ أكمل القرم حياته إلى النهاية. خدم الكنيسة اللبنانيّة المارونيّة، زيّن معابدها بإبداعه، والصالونات اللبنانيّة بلوحات أهميتها أبعد من مواضيعها، وبذلك يكون قد سجّل على خارطة الفن التشكيلي اللبناني أهم مفترق سوف يكون له دوره في حال تحوّلت الثقافة اللبنانيّة من ثقافة مستوردة إلى ثقافة مفاهيم وأصالة وطنيّة.
لهذا يمكن القول إن العمل الفني عند داود القرم له جذوره النيوكلاسيكيّة، وقواعده الجماليّة التي تصل إلى عمق حضارات حوض المتوسط. اللون عنده هو الضوء. الضوء هو الشعاع المنير للمساحات والمتغير باستمرار. في حنايا كل ملبس، وعلى بشرة كل وجه، يُسجل اللون لحظة ضوء ويثبتها إلى ما لا نهاية. ملامسة فرشاته لسطح اللوحة ناعم، كأن أنامله في رقصة بين الظل والنور. وهكذا يمكن القول إن لا أهمية لما يراه الفنان، بل لما يقدم هذا الفنان للناس كي يروا.

بطاقة
ولد قرم في غوسطا في جبل لبنان عام 1852، ثم استقرت عائلته بعد ذلك بوقت قصير في قرية والدته في غزير. ويمكن تأريخ بداياته كفنان في العام 1861، عندما اكتشف كاهنان من الكنيسة اليسوعية الإيطالية رسومه على بعض الصخور، وظنّا أن الطيور ثلاثية الأبعاد التي رسمها الصبي اليافع واقعية. فُتن الكاهنان بموهبة قرم الطبيعية وعرضا عليه أن يعلم الرسم في المدرسة اليسوعية التبشيرية المحلية مقابل دروس في اللغة الإيطالية. وبعد حوالي عقد من التدريس، في نهاية الستينيات من القرن التاسع عشر، تمكن قرم من بيع عدة لوحات إلى الكنيسة المارونية في جبل لبنان ليدفع بثمنها سعر بطاقة سفر إلى روما ولكي يدرس في أكاديمية سان لوكا على أيدي الفنان روبرتو بومبياني.
اختار قرم عام 1878 الاستقرار في بيروت. كانت هذه المدينة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وقد شهدت تبدلات جذرية خلال العقود السالفة، حيث تحوّلت إلى محور تجاري وسياسي وثقافي في كامل المنطقة. وبالإضافة إلى الطفرة السكانية التي أعقبت الحرب الأهلية عام 1860 في جبل لبنان، شهدث بيروت نمواً كبيراً بفضل العديد من مشاريع البنية التحتية الممولة برعاية مشتركة من قبل الحكومة العثمانية والحكومات الأوروبية. وبالتالي، انتقل عدد كبير من العائلات إلى  بيروت، من حلب ودمشق وطرابلس وعكّا وصيدا وجبل لبنان لتلتحق بفئة متنامية من عائلات التجار الدمشقية. وضمن هذه الطبقة الناشئة والصاعدة والناشطة من التجار والمثقفين والسياسيين – المعروفين تاريخياً برجال النهضة – استطاع قرم أن يبني قاعدته من الزبائن.
رسم قرم شخصيات من بيروت باستخدام الزيت على القماش بشكل أساسي، إلى جانب الباستيل على الورق، وذلك بأسلوبه الخاص: رسوم شخصية، تبسيطية وشكلية، تظهر ثلاثة أرباع الطول على خلفية داكنة، مع تركيز على ملامح الموقع الاجتماعي والمهني للأفراد. استند عمل قرم، من نواح عديدة، على تقليد سائد من قبل للرسوم الشخصية، في اللوحات الزيتية والصور الفوتوغرافية على حد سواء، وكان هذا التقليد مستحباً لدى تلك الفئة في ذلك الوقت. لعل من أكثر رسوم قرم  شهرة رسمان، أحدهما لبطرس البستاني (1894)، والثاني للبابا بيوس التاسع (أوائل 1870)، وكانا بمثابة بطاقة تعريف بفنه.
لم يقتصر عمل قرم على زبائنه في بيروت وجبل لبنان، فقبل أن يؤسس محرفه هناك، قضى فترة في بلجيكا إثر تكليفه من قبل ليوبولد الثاني برسم أفراد الأسرة المالكة. كما سافر عام 1887 إلى الإسكندرية ليرسم بريشته القادة الزعماء هناك، وكذلك بعض الوجهاء. ثم دعاه الخديوي عباس الثاني سنة 1894 إلى مصر من جديد لإنجاز رسم شخصي له.
في 1912، وسّع قرم مشروعه الفني وساهم بازدياد جمهوره عندما افتتح “بيت الفن” وهو عبارة عن متجر للمستلزمات الفنية كان متمركزاً بالقرب من دائرة بريد بيروت. أظهر النجاح التجاري الذي حققه هذا المتجر اهتمام الجمهور المتزايد في الفن، ليس على صعيد مشاهدة الأعمال الفنية فحسب، بل في مجال صناعة الفن أيضاً.​
عرض قرم أعماله في الخارج، في مصر وأوروبا، ولا سيما في معرض فرساي لعام 1889 في فرنسا وكذلك في معرض باريس 1890 حيث حاز على جائزة الشرف للتميّز. وشكل حصوله على وسام الاستحقاق اللبناني ووسام المجد العثماني اعترافاً إضافياً بمكانته. توفي قرم عام 1930.

التاريخ: الثلاثاء1-10-2019

رقم العدد : 967

آخر الأخبار
طلبة جامعيون لـ "الثورة": أجور النقل بين العاصمة والريف مرهقة لنا القائد الشرع يلتقي وفد المفوضية السامية للأمم المتحدة أكثر من ٣,٥ ملايين طالب وطالبة يتقدمون للامتحان الفصلي الأول خدمات صحية متنوعة يقدمها مستشفى الحراك الوطني بدرعا ورشة تدريبية بدرعا للتعرف على ذوي صعوبات التعلم وتشخيصهم انخفاض كبير بأسعار المواد الغذائية في طرطوس تحسن ملحوظ بصناعة رغيف الخبز في درعا تخفيف العقوبات على سوريا على طاولة "الأوروبي" سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان