بكامل القدرة على تحليل منجزات الميدان وانعكاساتها على الحالة الوطنية ومعادلات الداخل الوطني التي تشهد المزيد من التحولات المهمة بما يعني انتصار الدولة على المشروع الغربي الصهيوني التدميري، وكذلك انتصار المجتمع الوطني المتماسك في وجه ما خطط له حلف العدوان الإرهابي الدولي حتى يُعاد تشكيل الشرق الأوسط الجديد والكبير عبر فوضى تدبّ في دوله تجعله صالحاً لإعادة التركيب لكن على الطريقة الأمروصهيونية التي لا ترغب ببقاء الوحدة الجغرافية التاريخية المعهودة فتقع البلاد ومعها العباد في إطار من التنازع الداخلي الذي يخلو من قوى التوحيد، ومن نظريات العمل الوطني المشترك ليغدو المكان والزمان صالحين للإدارة بالكونترول الغربي المتصهين وحسب، ومن هنا نتلمس خيوط التشابك بين منجزات الميدان وإرادة الدفاع عن الوطن وبين مخرجاتها في حقل السياسة في بعديها: الداخلي، والخارجي، فالداخلي يمسّ أسلوب العمل الوطني، والتعامل على ضوء ما أنتجه تحالف الشعب في حربه الوطنية العادلة ضد الإرهاب الدولي باسم الإسلام السياسي وداعميه.
أما الخارجي في محوريه: الإقليمي والدولي فيمسّ علاقات التحالف التي تحتاجها الدولة الوطنية السورية حتى تعزز نصرها الميداني بنصر سياسي يفتح للأمم المتحدة ومجلس الأمن آفاق من التعاون على وجود الحل الوطني السيادي بما يأخذ بعين الاعتبار الوجود الشرعي للدولة العميقة في سورية وما أنجزته على طريق النصر لا الأحلام المتصهينة التي تتقصّد تجاهل منجزات الدولة ومجتمعها في الحرب على الإرهاب، وتريد أن تجعل من السياسة سبيلاً للحصول على ما لم تستطع الحرب تحقيقه لهم، وهنا تقع المعادلة الأهم التي تنحصر بالدولة السيادية التي تنبثق عن شعبها ويُسأل شعبها عنها كما تُسأل أمامه في التخطيط، والتوجيه، والقرار، أو بالدولة التي تُدار من الخارج ولا علاقة لشعبها في تحديد أنظمتها، ومشاريعها.
أي إن المسألة الحاسمة هي بين الدولة السيادية، أو الدولة المرتهنة التابعة لمرجعية الخارج التي تخرج من مفاهيم الدولة الوطنية فتصبح كياناً محمياً وسلطة تحت حماية المرجعيات كما نشهده في كيانات أعرابية متعدد صار عَلَمُ الكيان الصهيوني يرتفع فوق مبانيها، ويُنشد النشيد الصهيوني على ملاعبها، وقاعات الثقافة فيها، وصار مسؤولوها يتحدثون عن الكيان الصهيوني على أنه دولة شرعية معترفٌ فيها من الأمم المتحدة، وكأنّ الشعب العربي الفلسطيني لم يُطرد من أرضه ويُشرّد في البلدان العربية المجاورة، وفي هذا السياق نحبُّ أن نقرأ الاحتجاجات الشعبية القائمة في لبنان والعراق، ولها تناذر في بعض البلدان حتى في الممالك والمشيخات وصولاً إلى الجزائر نعم إن المتابع لا يمكن له أن يتجاهل المطالب الشعبية المحقّة، وأحلام الناس في رفع مستوى معيشتها وهذا حق دستوري، وإنساني منصوص عليه، لكن حين لا تظهر الرموز الوطنية التي توجّه، أو تخطّط لهذا الحراك سيكون الأمر متروكاً لفوضى الحراك لا لنظامه، وتنظيمه بما يرفد المعارضة الوطنية التي تمثل دولة الظل الموازية للدولة الشرعية القائمة، وحين تُرفع السقوف باسم الوصول إلى الدولة العلمانية العابرة للطوائف وللمحاصصات الطائفية والمذهبية، والسياسية فهذا شرعي كذلك ومقبول لكن هل هذه الأهداف تتأتّى عن طريق البقاء في الشارع وتعطيل الحياة بقطع الطرقات، وتوقيف عجلة الشأن العام حتى حياة المواطن العادي؟!
إن مثل هذه الاحتجاجات تَعَوّدْنا أن تظهر باسم الشعب الباحث عن تحسين حياته، وأنظمة دولته لتنتهي عند المحرك الخارجي لحراك الداخل وليظهر دور السفارات الأجنبية في التغطية، والتغذية، والدفع نحو الخراب الداخلي لا الإصلاح، وإعادة البناء. ومن الواضح لدى من يمتلك العقل السياسي الذي يرى ما وراء الظاهر أن الغرب المتصهين يثير الزوابع في بلد لا لأنه البلد الهدف بل لكي تنتقل الزوابع إلى بلدان المحيط فتصل إلى البلد الهدف، وهنا نتساءل متى كان الغرب المتصهين يريد الدولة العلمانية عند العرب؟ ولماذا فكك برايمر العراق ليعيد تركيبه وفق المحاصصات الدينية والمذهبية والعرقية وجعله في دستوره دولة اتحادية فيدرالية لا دولة موحدة أرضاً وشعباً؟ والآن لماذا يلعب الغرب بالحراك الشعبي ليركب موجته؟ فإذا كان الذين يقفون في لبنان ويعطّلون الحياة أليس من مهمتهم إشغال المقاومة اللبنانية عن أن تكون مرتاحة في التوجه نحو العدو الصهيوني، والتخفيف من دورها المساند لسورية في الحرب على الإرهاب؟ ثم كيف يريد الغرب الدولة العلمانية عند العرب وهو يلوي عنق الأعراب للاعتراف بالدولة الدينية اليهودية في الكيان الصهيوني؟ إن المعادل الجديد -حسبما نرى اليوم- للغرب المتصهين لكي يعوّض مشروعه الذي فشل عندنا عبر الحرب الإرهابية علينا هو أن يركب موجة الفقراء العرب وهم نسبة غير قليلة لكن ليس لكي يصل بهم إلى غاياتهم بل لكي يجعل منهم قوى داخلية محقة في التخريب الذي ينشده منهم، ولو عدنا إلى مشروع الثورات والربيع منذ بداية هذا العقد لوجدنا أن الغرب وأدواته الأعرابية «حزنوا علينا لأننا نقع تحت الاستبداد السلطوي «ومن الضروري تغيير «أنظمتنا المستبدة» بحسب قولهم ثم حين تأتّى لهم الحال في بعض الدول أظهروا الدولة الجديدة بأنها دولة للإخوان المسلمين ولعملاء الصهاينة أكثر منها دولة للديمقراطية، والعلمانية، وحقوق الإنسان.
والآن هل يحقّ لنا السؤال التالي؟ لماذا حين أصبحت سورية على مشارف الربع ساعة الأخيرة في الحرب على الإرهاب، وجيشها استعاد مكانهُ على حدود الدولة في الجهات الأربعة والمواطن السوري بدأ يفكر بإعادة البناء الوطني الذي يستدرك فيه الرّد الطبيعي على مشاريع الغرب بمتحولات بنيوية تجعل من سورية الدولة القادمة والأقوى التي ينتظرها النظام العربي وجماهيره الشعبية حتى تعود إلى قيادة الزمن العربي كما كانت، لماذا في الزمن الذي بدأ فيه الأخوة في العراق يتحمّسون أكثر فأكثر للتنسيق وتنظيم التعاون مع سورية على كل المستويات وفتح معبر البوكمال مثال واضح، نعم لماذا حين بدأ نصر جبهة المقاومة يدحر أحلام الغرب وكيانه الصهيوني صار لا بدّ من حراك الفقراء، ولا بدّ من إزالة ما سمّوه أنظمة المحاصصة أو الطائفية ولو أدّى هذا المطلب لتدمير الدولة المعنية دون أن يحقق الفقراء أيّ مكسب؟ نحن قلنا: إن مطالب القوى الشعبية صاحبة الدخل المحدود محقّة وأنظمة المحاصصة لا بدّ أن تتحرك لبناء الدولة العلمانية الديمقراطية لكن هل تستطيع قطف التفاحة من الشجرة قبل نضجها؟ لماذا لا نراعي زمن النضج المطلوب؟ ثم ألم نتعلم من كثرة ما أوقعنا به الغرب المتصهين من ورطات أن الغرب وأدواته الأعرابية لا يخططون لخيرنا، وتحسين حياتنا بل يخططون لتدميرنا، وتظليم وجودنا، فمتى نقرأ الصورة بعين الذي يعرف ما يريده له عدوه، ويعمل بعكس الاتجاه؟ ونحن في سورية اليوم يتحمّس الغرب المتصهين للجنة مناقشة الدستور لكن لماذا يغضب حين نريدها من مرجعية أستانا وليس من مرجعية جنيف؟! هل لأن مرجعية جنيف تحت السيطرة، ومرجعية أستانا قد خرجت عن سيطرته، أم إن في الأمر مذهباً آخر؟
د. فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 11-11-2019
الرقم: 17119