في «سراديب الوجع» أمراءُ مقاومةٍ وتحريرٍ دوَنوا الحياةِ بمفرداتِ الكبرياءِ والصمود الجنوبي.. الأسرى اللبنانيون الذين روت الكاتبة «نسرين إسماعيل إدريس» من سيَرهم وقصص معاناتهم، ما جعلنا نتوغل وإياها في هذه السراديب، قارئين في قصة «مريم محمد نصار» التي كانت أسيرة في سجون العدو الصهيوني: «ثمَّة آلامٍ في هذه الدنيا أكبر من الوجع وأقسى بكثيرٍ من الموت، وثمة رحيلٍ وأحزانٍ أعمق من الموتِ وأوجع من نزيفِ الدمع..».
إنه ما اختارت أن تبدأ به تفاصيل ماعاشته «مريم» في معتقل «الخيام»، ومُذ داهم العدو الصهيوني قريتها وقتل والدها وحطم منزلها وأهان أسرتها، وصولاً إلى اعتقالها وشعورها بأن «دائرة الضياع» هي ما تعيش فيه على مدى ليالٍ كانت تستدعي فيها، نزيف الذكريات والكلام:«في معتقل الخيام، قد يتكسّر ويتشظَّى كل شيءٍ في نفسك، إلا شيئاً واحداً هو أنت.. قد تخسر كلّ شيءٍ سوى ذاتك.. فيه تجد التشوّه يأكل أحلامك وواقعك.. وحده عنفوانك، يكبر مع صغرِ المساحات وضيقها، ويتعرّش على الكوات الصغيرة، ليمتدَّ عالياً نحو السماء..».
هذا ما كانت تشعر به «مريم» التي اعتقلها العدو بعد اتِّهامها بـ «إخفاء معلومات والاحتفاظ بسلاح للمقاومة».. هذا ماكانت تشعرُ به كلّما داهمها الليل فعادت بذاكرتها إلى ماضٍ، قيّدها بسلالِ المعاناة وألقاها في «الزوايا المظلمة»..زوايا المعتقل الذي لم تتوقف عن السخرية من حراسه وجلاديه ومفتشيه، والذي كانت تشعر فيه، بتفاقم وحدتها وخوفها وترقبها، ولاسيما لحظة استجوابها التي أثارت فطنتها ودرسها:«مهما قالوا لكَ بأنهم يعرفون حتى عدد أنفاسك، ومهما واجهوك بحقائق وأكاذيب، وحدك الذي تعطيهم معلومات أو تضلِّلهم. اعترف بأيِّ شيءٍ لا يضر، واذكر أسماء بعيدة جداً عن الشريط المحتل..أسماء مات أصحابها أو استشهدوا، ولا تسول لك نفسك أن تذكر أحداً أبداً..
هذا هو الدرس الذي لقَّنته لنفسي في اللحظات الأولى لبداية التحقيق، ففي كلِّ الأحوال سأُضرب، وسأتعرض لأبشع أنواع التعذيب، وإن كانت أقدامهم توجع جسدي وتترك عليه أثاراً، فإن نفسي كانت مطمئنة مرتاحة، فما يتحمَّله الجسد، لا يستطيع أن يتحمله القلب»..
لاشكَّ أنها حكاية آلامٍ لا يهمُّ الأسير فيض الأوجاع والدموع والصرخات فيها،ذلك أنه يشعر بطمأنينة روحٍ، تنبض بالعنفوان وبالكرامة التي تربى عليها.. حكاية «مريم» في معتقلٍ، ما يحصل فيه يجعلك «لا تصدق عينيك أو أذنيك، فالصور المشهدية والأكاذيب المنسوجة من خيوط الواقع، سياطٌ قد لا تترك آثارها على جسدك، ولكنها كفيلة بأن تحطِّمك من الداخل، وأن تفقدك توازنك، وتبتر في نفسك الثقة تجاه أيّ أحدٍ يوهمونكَ أنه من وشى بكَ».
في معتقلات العدو، وحده صدق القلب من يجعل حواسك هي بوصلتك.. لا أصوات المعتقلين التي تسمعها تئن وتتألم، ولاأسلاك الكهرباء التي يوصلونها بجسدك كي تعترف بما تعلم أو لا تعلم.. لا المياه الباردة التي يلقونها على جراحك بعد ضرب السياط الحاقد، ولا التهديدات أو الركلات وغير ذلك من أبشع أنواع التعذيب للجسد الصامد،لا شيء من هذا بإمكانه أن يهين أسيراً، يشعر بأن ما يضمّد وجعه وعذابه الطويل: «ضغطةُ زنادٍ في يدِ مقاوم، يحمل الموت بين جنبيه ليهديه حياة لنا، وللمعذبين بالأرض، تكفي لشعورك بسخافة القضبان التي تحبس الجسد، ولكنها لا تحبس أرواحنا».
بهذه القناعة والعقيدة ضمّدت «مريم» جراحها وكفكفت أوجاعها، وبعد أحد عشر يوماً من التحقيق والعذاب المستمرين. أيضاً، بعد أن نُقلت إلى زنزانة إفرادية أُلحقت بعد عشرة أيام من وجودها فيها، بزميلاتها المعتقلات اللواتي لم تكن تعرفهن، ولم ترَ طيلة فترة اعتقالها أي واحدة منهنَّ.
سارت في سراديب المعتقل الضيقة متسربلة بالألم.. فتحت الشرطية الباب الحديدي بمفتاح ضخمٍ.. مشاهدٌ جديدة ستضيفها إلى ذاكرة تداعياتها، فـ «خلف القضبان» أسماء وأصواتٌ وصدى ذكرياتها: «اجتمعنا في زنزانة مظلمة، وعلى الرغم من انتماءاتنا السياسية والمذهبية المختلفة، قبعنا تحت سقفٍ واحدٍ للظلم، وبتهمة «الوطنية».. قرأتُ في وجوههنَّ الغريبة عني، سطور حكايتي، وعرفت في قرارة نفسي أنهنَّ العائلة التي أنتمي إليها، فمن الجميل أن تشعر بأن هناك من ينتمي إليك أيضاً، بوجعك، بحزنك، بوحدتك»..
أخيراً، كان التحرّر بعملية تبادلية تجاوزت فيها «مريم» وبعد أربع سنوات من المعاناة، سراديب الظُلم والعذاب والوجع ووحشة المكان والتداعيات: «سواد غرفة صغيرة وباردة لا تعرف معنى الشمس، ووجوهٌ عيونُها محدّقة بالفراغ.. كل مقلة مبحرة في عالم غير العالم، تبحث في حنايا الذاكرة عمّا يدفئها من برد الغربة والوحشة..
سنواتٌ أربع، ألتجئ إلى نفس الحائط.. أبكي، أتدفأ، أسند رأسي ضاحكة، وتشخص عيناي عليه أرقة.. نسيتُ أن هنالك شيئاً ما بعد هذا الجدار.. نسيت الشمس، الهواء، القمر والنجوم.. كأنني عمياء عن كل ما هو خارج حدود هذه الغرفة»..
باختصار، هو كتاب يحكي سيرة مقاومةٍ أبيَّة، استطاعت ورغم ما عانته في معتقلات العدو الصهيوني، أن تكسر معاني التكبيل بالحديد، وبجعل يديها تزداد التصاقاً ببعضهما، معلنة لهذا العدو ومؤكدة لنفسها، بأن عهدها كان وسيبقى وفياً للقضية..
قصة «مريم» التي تيقّنت ورغم معاناتها خلال اعتقالها، بأن «أروع الانتصارات التي تخلّد، انتصار الحقيقة حتى لو كانت معلّقة على المقصلة، وأفضح الهزائم، هزائم أنفسٍ تشرب بكؤوس الذل دم الأبرياء، وتصفق لنفسها بانتصار يتهاوى مع سقوط الأقنعة.».
تنتهي كوابيس ما عاشتهُ في «سراديب الوجع» لحظة وقوفها على «بوابة العبور» وتطلعها إلى السماء حيث النور.. تسلِّم تأشيرة خروجها على الشريط المحتل، ورغم وصولها إلى قريتها، وزغاريد الأهالي وصولاً إلى بيت أهلها، إلا أنها بقيت محاصرة بقيودِ معتقلٍ جعلها تسأل: «هل انتهى كابوس المعتقل، وما أزال أحيا عذاباته وأشرب مراراته؟! هي ليلة من ليالي الذكريات، أبحرتُ في يمّ الماضي وأنا أجذف بمجذاف الحاضر.. لستُ سوى انعكاس يحمل في الصورة والظل عذابات «معتقل الخيام»..
«سراديب الوجع».. كتاب عن قصة الأسيرة «مريم محمد نصار» بقلم «نسرين إسماعيل إدريس» والناشر: «جمعية المعارف الاسلامية الثقافية – بيروت»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 21 – 11-2019
رقم العدد : 17128