قد تشكل قراءتي لمعرض الفنان خالد حجار الذي أقيم في صالة الرواق العربي (قاعة لؤي كيالي) تحت عنوان «مع الروح «منطلقاً للبحث عن النواحي التشكيلية والتقنية، المشرعة على احتمالات الرسم بمواد مختلفة، وعلى سطوح منفذة أيضاً بوسائل متنوعة، تدخل فيها الألوان الصريحة، على خلفيات لونية معتمة أو خافتة، مع التركيز لاظهار حركة الاشكال(وخاصة الوجوه والأجساد) المحورة والمحرفة بشدة وبقوة تعبيرية درامية، قادمة من معايشة فصول الحرب والرعب، وقد تضمن المعرض حوالي 97 لوحة بقياسات مختلفة، من ضمنها مجموعة لوحات صغيرة جداً، قلما نجدها في معارض الفنانين.
فنان خط
هكذا تصبح لوحته الفنية التشكيلية الحديثة, شبيهة بلحن موسيقي درامي يعبر عن عمق حياتنا الراهنة. ومن هذا المنطلق يثير المعرض نقاشاً وجودياً، بقدر ما يكشف عن تموجات المشاعر والاحاسيس الداخلية، في خطوات بحثه عن إيقاعات تشكيلية حديثة، كل ذلك بلغة فنية فيها الكثير من التهكم والسخرية، وهو لا يقع في هاوية الخطاب التقريري والأدبي والسردي, وانما يترك لأصداء الحوار التشكيلي البصري، مساحات من التأويل والحرية التعبيرية والفنية والتقنية.
ومن الناحية الفنية يبدأ خالد من منطلق التمرد والرفض لأسلوب الرسم باللون فقط، فهو فنان خط قبل أي شيء اخر، يبرز قدرته على ابراز تحريفات وتداخلات العناصر، مبتعداً كل البعد عن النمط الواقعي الطبيعي، في وقت يستطيع فيه أن يحافظ على قوة التعبير الكامنة في ملامح الوجوه وتعابير العيون، وكل ما يقع في دائرة الحياة والتخيلات (ويقدم أجواء بصرية محملة بمرارة الواقع عبر لغة تشكيلية فيها شيء من الكاريكاتير والموتيف) ويؤكد قدرته العالية في تحريك الخط نحو العناصرالفنية الحديثة، المتجهة احياناً لاظهار حيوية الأشكال الإنسانية المختزلة والمحرفة، القادمة من معطيات الواقع والمنفتحة على كل الأزمنة والحضارات, ضمن انسيابية خطوط منحنية ومعبرة عن حقيقة روحانية تسكن جوهر الأشكال، بعد إزالة تلافيف قشورها الخارجة.
تنوع السطوح
وعلى هذا يبحث خالد حجار عن تشكيل تعبيري ورمزي وتهكمي يكشف الجوهر ويبتعد عن المظهر الملموس أو المنظور في الواقع المرئي، ولوحاته ترتكز على حركة الخطوط وتداخلاتها، مع تركيزه لإظهار مساحات اللون الزاهية والصريحة والقوية، والتي تصل إلى حدود استخدام الالوان الذهبية والفضية في بعض الأعمال.وتبرز قيمة التشكيلات في الحساسية المتمادية في الاختزال، إلى درجة تجاوز الشكل والتعبير عنه بخطوط منسابة ومتداخلة ومتجاورة. ونشاهد العناصر الإنسانية والإشارات المختلفة قد ابتعدت عن المباشرة الخطابية. كما تبرز في تجربته مظاهر التنويع التقني للوصول إلى التأثيرات البصرية المطلوبة, وبالتالي النفاذ إلى أبجدية تشكيلية ناتجة عن اختبارات تقنية, تبحث عن إيقاعات تعبيرية ورمزية في آن واحد. مع التركيز لإضفاء أجواء عفوية, تتجاوز السياق البصري الساكن، المقروء في الهندسية التشكيلية.
وعلى الصعيد الأسلوبي تتأرجح اعماله بين الصياغة التعبيرية المبسطة، والصياغة الرمزية, واللوحة عنده تتشكل بخيالات مختلفة، فالالتفافات السريعة والسطوح المتنوعة التأثيرات والحساسيات, هي أقرب إلى الحركة العاطفية. نحن هنا أمام أجساد يأخذها إلى حالة تعبيرية لا تتوقف عند معالجة تفاصيل الأشكال، بقدر ماتذهب لتجاوز هذه التفاصيل. والحركة الإنسيابية التي يجريها, تبدو شبه موحدة في اسلوبها, ومن ناحية الموضوع يجعلنا نشعر أنه ليس ببعيد عن تداعيات القلق والاختناق والدمار الداخلي الذي يلف الإنسان المعاصر.
وعلى هذا الأساس اضفى على اعماله حرارة عاطفية، بقدر ما حملت من الإشارات المرتكزة على الرقابة المركزة، وهكذا يقيم نوعاً من التوازن بين الوعي والانفعال, وهذه المعادلة تتطلبها الأعمال الفنية الحديثة والصادقة.
رموز البقاء
ووجود بعض التشكيلات النباتية الخضراء في بعض اللوحات, يعني عدم الوقوع في ظلام اليأس، فالحياة مستمرة، رغم مرارة الواقع ورماديته إلى حدود السواد المطلق والكلي. وأعمال المعرض تأتي كردة فعل عفوية ضد يوميات الحرب وما أحدثته، من تدمير وتهجير وجرائم بحق المجتمع السوري.
فالفنان هنا يتمسك برموز الحياة والبقاء ( الشمس، النباتات الخضراء، الزهرة، الطير وغيرها) لأن هذه المشاهد تعني أننا نحب الحياة بجمالياتها, وهي تأتي معاكسة للأحداث المفجعة، التي أدمت القلوب والعيون. وتمسك الفنان بالإنتاج في سنوات الحرب، هو بحد ذاته وقوف في خندق مواجهة الارهاب.فهو يعطي لوحاته مداها التخيلي والرمزي، ليتصدى من خلالها لتوترات العيش وسط يوميات الحروب والأهوال. فالإشارات الدلالية, تبحث عن حوار إنساني في هذه الظروف المأساوية, وتبرز كردة فعل إنسانية ضد التخلف والتطرف والجهل.
هكذا تتحقق خطوات التعاطي مع الخط والحركة المتزنة، كمدخل للكشف عن عوالم الصياغة الفنية الحديثة، المغلفة بالأحاسيس والمشاعر والرؤى والتقنيات المعاصرة, لإبراز صيغ التحاور البصري والعمل على إيجاد العناصر الإيحائية, وبالتالي المعبرة عن ذاكرة الحاضر الهجين والفجائعي، وتأتي الاختصارات الشديدة لتلتقط حركة الوجه او الشخص، وهذا يجعل الأشكال أكثر حيوية وحرية, ويجعل الحوار البصري أكثر حداثة، ويطرح من جديد إمكانيات التفاعل بين الأجواء الفنية، التي تنتمي لأكثر من تيار أو اتجاه، ضمن خصوصية اسلوبية موحدة.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الاثنين 13-1-2020
الرقم: 17167