اضطرَّتهم الحرب التي ألقتْ كلَّ بشاعتها على وطنهم، لمواجهتها بكلِّ ما امتلكوه من حبٍّ لهذا الوطن الذي كانت رسالته هي رسالتهم.. رسالة الفنِّ التي أكّدت بمضامينها الإنسانية، بأنها ستبقى صوتُ الحياة التي لا ترتقي!! إبداعاً وجمالاً، إلا إن شاءت أناملهم التي لم تُنطق اللون واللوحة فقط، وإنما أيضاً، التاريخ والحضارة والحجارة السورية.
إنهم التشكيليون والنحاتون.. الفنانون الذين وإن توجعوا كما كلِّ أبناء سوريتنا، إلا أنهم أبوا إلا المضي في بلسمة ما فيها من آلامٍ، أبدعوا في إخضاعها لكلِّ ما أرادوه يلقي الحب والسلام والجمال على حياتنا.
لأجلِ هذا، ولأنهم الأوفياء في تجسيدِ حياتنا ومعاناتنا وأصالتنا، من حقِّهم علينا أن نسألهم: من يجسِّد حياتكم ومعاناتكم وأصالة نتاجاتكم، وما الصعوبات التي تعترضكم، وتشعرونها تعيقُ إبداعاتكم؟..
«التعتيم الشلَّلية الإهمال»
•علي بهاء معلا – نحات وتشكيلي:
هل أبدأ من التسلق الفني، أم من التعتيم على المبدع، أم من عدم تقدير أعماله التي أهملت ولم تخرج إلى الضوء، أم من انتشار الشللية؟…
منحوتتي «أم الشهداء» التي أنجزتها في عام 2015 إلى الآن لم تخرج إلى النور.. «مجسَّم السفينة الفينيقية» لم يلقَ أيَّ أهمية، مع أنه يشرح مرحلة مهمة من مراحل تاريخنا السوري.. ليس للنحاتِ أي حقٍّ، وهو يقدم لوحاته ومنحوتاته، فتبقى بانتظار من يقبض ثمنها ليضعها في الساحات العامة. هذا إن وُضعت.
من أين أبدأ؟.. ومازالت منحوتة «سورية المنتصرة» تعاني من التعتيم الكامل.. عجبي!! هل بات النحات على الهامش ، ليس له أيّ رأي؟!!.
لا أريد ملتقياتهم لأنهم يطفئون كلّ بصيصٍ للفن والحضارة، حتى مديرية الفنون في وزارة الثقافة، تكرس الشَّللية التي يتم عبرها تكرارَ أسماء نحاتين يشاركون في كل الملتقيات، وبالمقابل يتمُّ التعتيم وتغييب الكثير من المبدعين.
أنا لا أريد تكريماً مادياً، ولا أسعى لشهرة، فقط أريد أن أشارك في بناء وطني السوري، وأن أذكِّر بحضارته.. الفن هو ما يدل على رقي وحضارة أي بلد، وهو رسالة إنسانيته وجماليته.
«بيئة.. لا تساعد »
•إيمان الحسن – فنانة تشكيلية:
الحياة في ظلِّ الوضع الراهن جملة تناقضات مليئة بالمعاناة، وفي ظلِّ هكذا وضع لا يمكنني إلا الاعتماد على لوحة بيضاء وفرشاة حيناً، وإزميل ومطرقة حيناً أخرى، لأعبر عن هذه التناقضات التي تسكنني وأسكنها.
وحدها أعمالنا من تجسد أحوالنا ومعاناتنا، أما الصعوبات فحدِّث ولا حرج، وليس أولها الحياة الاقتصادية وغلاء المواد الأولية وصعوبة التسويق وانعدام الدعم، ولا آخرها البيئة الفنية التشكيلية التي لا تساعد على الإبداع إذا لم نقل أنها تعيقه.. مع ذلك، لابدّ من الاستمرار، فالفن بالنسبة لي ليس تجربة أو خلقاً أو إعادة تشكيل للحياة.. الفن باختصار هو الحياة بأكملها.
«هواجسنا تتخطى واقعاً.. تغيبُ نهضته الحقيقية»
•إياد بلال – نحات وتشكيلي:
للفنان عموماً، والنحات بشكل خاص، هواجس كثيرة في عمله، وأسئلة مشروعة لا تقف لدى حدود التسويق وانتشار العمل الفني، ولا لدى تأمين مكان العمل والأدوات، إنما تذهب إلى أبعد من ذلك.. من يمثلني، وما الجهة المعنية بشؤون الفن الذي أقدّمه، وهل أنا موجود أصلاً؟!.
هي أسئلة مشروعة وواقعية. لكن، لا جواب والسبب، أننا لا نملك مشروع نهضة ثقافية- فنية حقيقي. ذلك أن الفعل الثقافي العام، يدور في حلقة مغلقة سقفها مهرجان شكلي، أو تجمع فني متكرر تاريخياً، وليس على الفنانين الجدد سوى الصبر والانتظار الطويل.
باختصار، عدم وجود مشروع ثقافي نهضوي شامل، وغياب البحث العميق، يدخلنا في المعاناة وصرف الوقت في اصطياد الهفوات، واللجوء للتجمعات بعيداً عن ثقافة حقيقية تنهض بالوطن.
« جهل البعض بما نرمز إليه»
•محمد الرسام – نحات:
معاناتنا الأولى وككل أبناء مجتمعنا، الضائقة الاقتصادية التي سبَّبتها الحرب وانعكست على أعمالنا التي ارتفعت حتى أسعار الأدوات التي نستخدمها لإنجازها.. المعاناة الثانية, عدم وجود مكان مخصّص لنا وتعتمده وزارة الثقافة، أو الجهات المعنية والمهتمة بالفنون.
أيضاً، ما تعرضت له بلدنا من حرب تكفيرية وظلامية، استهدف أول ما استهدف، الفكر والثقافة والفن والابتكار، وهم ما يعكس مدى حضارة ورقي كل شعب، وكل أمّة!!.
نعم، نحنُ نعاني، والمعاناة الأكبر، جهل البعض في فهم ما نرمز إليه بأعمالنا الفنية، ومثال ذلك، ما حصل مع الفنان الذي نحت تمثال «عشتار» وتعرض لحرب شرسة، من قبل الجاهلين في تفكيرهم، وأصحاب الفكر الظلامي.
«انعكاساتُ الحرب.. صرفت الناس عن الفنِّ»
•سهى ياسين – فنانة تشكيلية :
الفن لغة، والريشة والألوان أدوات الفنان في التعبير عن أحاسيسه وانفعالاته وسعادته وحزنه وألمه، والفنانون الحقيقيون هم من يصنعون السعادة ويقدمون الجمال. لكن، لعل الهمّ الأكبر لنا كفنانين، هو أن يصل هدفنا مما نقدمه للمتلقي، وأن يكون لدى الناس القدرة على فهم العمل الفني ولغته، وأن يتفاعلوا مع أفكار الفنان وإيحاءات لوحته.. طبعاً، ذلك يعتمد إلى حد كبير على الثقافة الفنية لدى العامة، وعلى مدى اهتمام مجتمع الفنان ومحيطه بالفن..
أيضاً، الفنان بحاجة إلى جوٍّ خاص به، وإلى بيئة وظروف مناسبة، ولعل الوضع الحالي لا يساعد في ذلك كثيراً، فالفنان في النهاية مثله مثل بقية الناس يعاني همومهم وآلامهم، والوضع الاقتصادي السيىء الذي سبَّبته الحرب، قد صرف اهتمام الناس، ولو بعض الشيء عن الفن. صرفهم عنه بحثاً عن لقمة عيشهم، وتحسين ظروفهم وهذا ينعكس أيضاً على الفنان والفن عموماً.
«أغلب الصعوبات مادية.. ولا سوق لأعمالنا»
•عبير عامر – فنانة تشكيلية:
لاشكَّ أن الألم والمعاناة، هما جزء أساسي من تجربة الوجود.. لكن، ورغم هذه المعاناة، وحده الفن من يمنحنا الأمل، ويجعلنا أقل شعوراً بالوحدة التي تحيط بنا، والبشاعات التي تداهمنا وتُخيفنا.. وحده من يُشعرنا بجمال الحياة، ويعيد لنا التوازن فيها.
طبعاً، هناك بعض الصعوبات، وأغلبها مادي، إضافة إلى عدم وجود سوق حقيقي للأعمال الفنية، والفنان غالباً ما يعتمد على بيع مواده ولوحاته، من أجلِ أن يجد مدخولاً مادياً له، ومن أجلِ أن يكون قادراً على تأمين أدواته الفنية اللازمة.
كلمة أخيرة
لماّ ننتهِ.. مازال هناك كُثرٌ من الفنانين لم نسمع معاناتهم.. حتماً هم لم يرفضوا إعلانها. لكن، يبدو أن ما ينطق به الصمت هو المعاناة الأكبر والأخطر..
مثلاً، لأن النحات والتشكيلي «بشار برازي» يشعر بأن حجمِ المعاناة لديه، تجاوز البرد والصقيع وانعدام أبسط وسائل الحياة، إلى ما عانت منه مدينته «حلب» التي اضطرَّ لمغادرة مرسمه فيها قبل أن تتحرر.. لأنه يشعر بذلك، اعتذر خجلاً من معاناته، مكتفياً بإعلان أنه في حالة «سبات شتوي» لابدّ أن ينتهي لديه، كما لدى كُثر من الفنانين الذين ليس لديهم ما يقولونه من شدّة امتلائهم بالمعاناة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، البعض رفض الرد أصلاً، وأظن أن السبب شعوره باللاجدوى واللاأهمية لأي شيءٍ ينجزه، وهو ما يعتبر المعاناة الأكبر ليس للفن والفنانين فقط، بل لمجتمع يحتاج في هذا الوقت تحديداً، للنهوض فكراً وجمالاً وحياةً.
كلُّ ذلك، ومازال هناك الكثير مما لم نستدعه لأننا نعرف مقدار الأوجاع التي فيه.. لازال الكثير لدى مبدعينا ولدينا، كل الأمل بأن تنزاح هذه المعاناة، وتبقى أعمالهم لوحات ومنحوتات، تجمّل الحياة في وطنها، وتلقي النور عليه..
هفاف ميهوب
التاريخ: الأربعاء 26-2-2020
الرقم: 17203