شهد مفهوم «القوة الناعمة» صعوداً بعد نهاية الحرب الباردة، رغم أن ما يعبر عنه كان موجوداً قبلها وأثناءها، والذي يتجلى في استخدام أدوات الإقناع والاستمالة وليس الضغط والإكراه في إدارة العلاقات الدولية، كأدوات الدبلوماسية الشعبية وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية أو توظيف المعونات الاقتصادية والمنح الدراسية في إدارة العلاقات الخارجية. وقد انصبّ خطاب الرئيس الأميركي السابق أوباما في جامعة القاهرة في حزيران 2009 بعد توليه الرئاسة في هذا الاتجاه لتطوير العلاقة مع العالم الإسلامي.
حدد الأدميرال جوزيف ناي, وهو عميد في جامعة هارفارد, ورئيس سابق لمجلس الاستخبارات الوطني الأميركي, وكان مساعد وزير الدفاع في عهد إدارة كلينتون, حدد مفهوم القوة الناعمة, في كونها: «القدرة على الاستقطاب والإقناع…إذ بما أن القوة الخشنة تكمن في القدرة على الإجبار والإكراه, المتأتية من القوة العسكرية للدولة, أو من تفوق قدراتها الاقتصادية, فإن القوة الناعمة تتأتى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية» أو الإعلامية, أو ما سواها.
ووفقاً لـ ناي تُعَرَّف القوة الناعمة بأنها المقدرة على التأثير وعلى تشكيل خيارات “أو أفضليات” الآخرين، والقوة الناعمة مشتقة من ثقافة، وقيم، وإنجازات الدولة أو الأمة.
وعلى النقيض من القوة الصلبة، فإن «القوة الناعمة» تقوم على جذب المعارضين، لمثلك، وقيمك و ثقافتك الخاصة. ويرى جوزيف ناي، أن كلا النوعين من القوة مهم، لكن الجذب أرخص بكثير من الإجبار. ولا تعني القوة الناعمة أن أدوات القوة الصلبة تختفي، لكن القوة الناعمة لها لحظتها المناسبة، وهي في الغالب تعمل في إطار من التبادل والتوافق مع أدوات القوة الصلبة الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وإلا كانت النعومة مرادفة للضعف والعجز، فلا تكون بذلك خياراً بل تكون اضطراراً، وهو ما يفقدها في الغالب قوتها حتى في بعدها الرمزي، فتندرج تحت بند العلاقات العامة ، لا العلاقات السياسية بمعناها المركب، وتنأى عن العلاقات الدولية بالمفهوم العلمي الدقيق.
وبذا ، فإن مفهوم القوة الناعمة ليس مفهوماً ثابتاً بل تتغير القوة الناعمة بتغير وسائط وأدوات التأثير الثقافي وتحولاتها النوعية في ظل تحولات مفهوم المكان والجغرافيا، كما قد تزيد وتنقص حسب رصيد رأس المال الأخلاقي للدولة التي تريد أن تلعب دور النموذج المحتذى، وكذا رأس المال الحقيقي الذي تستثمره الدولة في هذا المجال من مخصصات وموازنات فيمكّنها من ممارسة النفوذ والتأثير، أو تبخل به لأسباب توازنات انتخابية أو تحالفات حزبية فتضعف، أو تهدره بالكلية فتفقد أدوات هامة في تحقيق مصالحها في الممارسة السياسية الإقليمية والدولية، ويبدو الأمر جلياً في الأزمات حين ينكشف القصور.
فالقوة الناعمة إذن تتلخص «في القدرة على الاحتواء الخفي والجذب اللين, بحيث يرغب الآخرون في فعل ما ترغب به القوة المهيمنة, من دون حاجة إلى اللجوء إلى استخدام القوة, أو بما يغني عن استخدام سياسة « العصا والجزرة» بالتالي , يقول ناي: القوة الناعمة أفضل بكثير, خاصة أن التجربة أثبتت نجاعتها ومدى تأثيرها: فـ «الجماهير السوفييتية كانت تشاهد الأفلام, وتتمثل خلفياتها السياسية, وعبرها استطاعت ذات الجماهير, معرفة أن الناس بالغرب لا تقف في طوابير لاقتناء الطعام, ويقيمون في مساكن مستقلة, ولديهم سياراتهم الخاصة».
وتمتلك الولايات المتحدة نفوذاً وتأثيراً في عالمنا الراهن مستفيدة من شيوع اللغة الإنكليزية، سواء في لغة التخاطب اليومي، أم لغة التجارة والأعمال، وهناك اليوم عشرات الملايين، إن لم نقل مئات الملايين من البشر يأكلون ويلبسون على الطراز الأميركي، ويستمعون الأغاني الأميركية ويشاهدون الأفلام الأميركية. كما أن هناك اليوم مئات الملايين من البشر ممن يستخدمون الحواسيب والبرمجيات الإلكترونية الأميركية, ويتكلمون الإنكليزية باعتبارها لغة التقنيات والأعمال وتداول العملة, هذا دون أن نتحدث عمن يقرؤون الآداب ويطلعون على الأفكار ويتابعون الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأميركية. وبالتالي, فإذا كانت القوة الصلبة تنبع أساساً من القدرات العسكرية والاقتصادية, «فإن القوة الناعمة تتأتى من جاذبية النموذج, وما يمتلكه من قدرة التأثير والإغراء للنخب والجمهور على السواء». فحينما تبدو السياسة الأميركية مقبولة ومشروعة في أعين الآخرين, على ما يقول ناي, «يتعاظم دور القوة الناعمة أكثر, وبموازاة ذلك, تتراجع الحاجة إلى استخدام القوة العارية. وعلى العكس من ذلك, فكلما تضخم استخدام القوة الإكراهية, وضعفت شرعية مثل هذا الاستخدام, يتضاءل معها النفوذ الثقافي والسياسي والتجاري, وكل ما يدخل ضمن دائرة القوة الناعمة».
قد أخذ مفهوم القوة الناعمة يحظى باهتمام واسع، بسبب قدرة هذه القوة على التأثير في عالم اليوم، وتنوع استخدامها، من وسائل الضغط الاقتصادي والدبلوماسي والنفسي، إلى أساليب الإغراء والجاذبية، من الفنون على اختلافها، بما فيها الأدب والمسرح والسينما المبهرة .ومع ذلك فقد تعرض مفهوم «القوة الناعمة» لانتقادات عديدة، من بينها: أنه مفهوم شديد العمومية، كما أنه من الصعب تحديد الآثار التي تنتجها القوة الناعمة، علاوة على أن القوة الصلبة، من وجهة نظر الواقعيين، تظل الأكثر تأثيراً في العلاقات بين الدول والأحداث الجيوبوليتيكية. ودفعت هذه الانتقادات جوزيف ناي إلى تطوير مفهوم آخر للقوة هو «القوة الذكية».
khalaf.almuftah@gmail.com
د خلف المفتاح
التاريخ: الأثنين 2 – 3 – 2020
رقم العدد : 17206