طائر الفينيق يحلق غرباً أدونيس يدعو لتحرير الوعي العربي

الملحق الثقافي:فاتن أحمد دعبول:

من أجل أن يؤسس لخطاب جديد مع الآخر الغربي، ذهب أدونيس إلى أبعد المطارح بعد أن ابتكر طرائقه الخاصة في فهم ذاك الآخر الغربي، واجداً جذور هذا الفهم عينه في الحضور الأعلى للثقافة العربية ابتداء من أبجدية أوغاريت وصولاً إلى أولئك الرجال الأفذاذ الذين واجهوا الثقافة الرجعية السائدة بأبعادها كافة، واجترحوا آفاقاً جديدة لمعنى وجود الإنسان العربي، وأراد عبر تجربته الثقافية المديدة أن يعيد تأسيس حوار جديد مع العقل الغربي على جميع المستويات.
وفي العدد الأخير من مجلة المعرفة في عددها 677 شباط 2020 توقف د. علي محمد إسبر عند محطات من فكر أدونيس وطروحاته في أبحاثه ليبين أن العرب مهددون بفقدان حضورهم بالمعنى الإنساني الكوني، وأوضح أن هناك أجيالاً من الشباب والشابات العرب سقطوا في شرك وعي سلفي يمكن أن يغيبهم عن الإسهام في نهوض البشرية ونموها وتطورها، علماً وتقانة وثقافة، وقد كرس الغرب في وجهه السياسي حالة التبعية عند العرب، وأنها شعوب غير تاريخية وليست مؤثرة في حركة التاريخ، وعلى هذا الأساس يجب أن تتحول إلى وقود يدفع ركب الحضارة الغربية قدماً.
ووجد أدونيس نفسه معنياً بالبحث عن الأسباب التي آلت بالعرب إلى هذا المصير، والبحث في الآن نفسه عن العناصر التي قادت الغربيين إلى أن يكونوا أسياد الحضارة الحديثة، واستطاع بدوره أن يستقصي كيفية تكون الثقافة الراهنة على أساس سبره لمفاعيل النصوص التراثية في الحياة الثقافية العربية في أبعادها كلها، ووجد أن ثمة بنية ثابتة دمغت أي بعد إبداعي بدمغها الحشوي في النثر والشعر والفن وسائر أشكال الحياة الفكرية والأدبية واللاهوتية، فسادت في رأيه ثقافة تنهل من الفقه على وجه التحديد مختلف صنوف حضورها في أشكال الوعي عند العرب المسلمين، بمعنى أن انتصار الثقافة الفقهية السلفية التكفيرية ببنيتها الثابتة يهدد أي شكل إبداعي للحضور الإنساني في عالم العرب المسلمين.
جسد يخنقه شريانه
وقد أدرك أدونيس بنفاذ بصيرته أن التراث الفقهي السلفي يعمل بطريقة خفية على صياغة وعي الإنسان العربي المعاصر، ويمتلك فاعلية مذهلة في صياغة وتكوين وابتكار ذهنياتنا الراهنة نحن العرب المسلمين، فالحاضر الثقافي وفق رأيه ليس إلا التراث الماضوي وقد غير لونه تبعاً لتموج أحواله في المكان والزمان، لذلك صار التراث سيداً مطلقاً على الحياة العربية، وهو بذلك لا ينتقد التراث العربي الإسلامي كيفما اتفق، بل هو يعرف أن التراث مشكلة متأصلة حتى في الثقافة الغربية الراهنة، وهو بدوره واجه تراثاً من نوع مختلف، فجعل مهمته تقويض تاريخ الفقه السلفي التكفيري الذي رسخ عقلية الثبات في الثقافة العربية، ونقد فقهاء تسببت آراؤهم بتشويه الإسلام، ويستحضر في مواجهتهم «الحلاج والمعري وابن الراوندي»، ما يؤكد وعيه بخصوصيته الحضارية إزاء الخصوصية الحضارية الأوروبية، ووجد في النفري وأمثاله منطلقاً للحداثة العربية.
إذاً يستخدم أدونيس في نقده لتراثه ما يتناسب منهجياً مع خصوصية هذا التراث، وهنا تتجلى أهمية أدونيس، فتوجهه نحو تلك الآفاق ليس إلا إحياء للثقافة العربية في مواجهتها للثقافة الغربية نفسها.
قطيعة معرفية
واكتشف أدونيس أن الوضع العربي الراهن في ظلاميته المخيفة هو مطلب غربي، فالغرب يريد تكريس هذه الظلامية وجعل العرب فكراً وممارسة أسرى منطوقاتهم التراثية، لذلك طالب أدونيس بقطيعة معرفية مع التراث السلفي التكفيري السائد بوصفه جزءاً رئيساً من عملية تحرير الوعي العربي ليكون قادراً على مضاهاة الآخر الغربي.
وقد حاول بدوره تقويض التراث التكفيري بوضعه ثقافة الهامش «الثقافات الشعرية والصوفية والفلسفية عامة» في مواجهة ثقافة المتن «التراث الفقهي السلطوي»، ولذلك يجب إحداث قطيعة حقيقية مع الثقافة الفقهية التي انبثقت عنها تاريخياً سلطة طاغية، من أجل تحرر الشعوب العربية نهائياً من أغلال الجهل والتخلف والرجعية، حتى تكون شعوباً جديرة بأن تثبت حضورها الكوني في مقابل الحضور الكوني للشعوب الغربية.
حضور إنساني
ويرى أدونيس أن دولاً عربية كثيرة مهددة بالانقراض بالمعنى الحضاري، وهذا يتطلب مشاركة الأفراد البارزين من العرب والمسلمين في أعظم مراكز البحوث العلمية الغربية لتكوين نواة أساسية للمستقبل العربي، كما حذر بدوره العرب من الركون للغرب والمراهنة عليه، فما فعلته دول استعمرت العالم العربي من طرد وإغلاق الباب في وجه المهاجرين هو دليل أنها لن تتحمل أي مسؤولية تجاههم رغم أنها نهبت ثرواتهم لسنوات طويلة.
ويؤكد بدوره أننا نعيش الآن مع الغرب بثقافة كاذبة ووهمية، ويتشكك في أن الغربيين اليوم يعرفون التاريخ العربي وثقافته ومشكلاته، لكنه يجزم أن كثيراً من العرب لا يعرفون الثقافة الغربية، لذلك هم لا يملكون أدوات التعامل مع السياسة الغربية، ولا يفهمون طبيعة مشكلات الغرب وخصوصياته الحضارية، فالقول الحر هو من روح الثقافة الأوروبية، لكن ذلك لا يعني بالطبع إهانة مقدسات الآخرين، وإذا حدث ذلك فيجب على الآخرين اللجوء إلى القانون وحده لمعاقبة المسيئين.
إذاً فإن استبصارات أدونيس فائقة العمق تقول «أيها العرب أنتم تابعون للغرب وخاضعون له، لأنكم لم تتحرروا من تراثكم الفقهي السلطوي التكفيري»، هذه هي أطروحة أدونيس الأساسية، لأن تحرر العرب من هذا التراث يعني جوهرياً وعلى نحو ضروري تحررهم من آلامهم.
التقنية الأمريكية
ويقف أدونيس ضد التقنية الأمريكية، إذ إن القبض على العالم عسكرياً بوساطة هذه التقنية نفسها بوجهها الحربي يعدّ أساس الوثبة الأمريكية الجامحة في جميع أنحاء المعمورة، وهي وثبة ضد العقل أو القانون، لأن ما يوجهها هو اندفاعيتها وحدها، وبذا يصير الوجود الإنساني نفسه في ضروبه وأشكاله وتياراته كلها تابعاً لهذه الوثبة عينها، لا موجهاً لها.
ولهذه الوثبة جذور نكتشفها في روح الغزو عند الإنسان الأوروبي عندما أراد فض بكارة الأرض في سعيه لاكتشاف عوالم جديدة من أجل بسط نفوذه على العالم كله، ولم تكن حماسة كريستوفر كولومبس لمخر عباب المحيطات لاكتشاف عوالمه الجديدة سوى حماسة رجل مغامر باحث عن الذهب لإرضاء الملوك.
ويستحضر أدونيس بشاعريته الإنسانية الجامعة مأساة الهنود الحمر، ويقول:
كيف ليدٍ ذبحتكَ، أن تشفيك من جراحك؟
التراب أقرب أصدقائي إلي، وسوف أحارب دائماً إلى جانبه
كلا، لم نمت، الموت فينا اسم آخر لمحارب هندي آخر.
أحزاني كلها تختبىء في الأفق بين أجنحة الصقور،
من يعرف من أنا، غيرك أيها الأفق؟
هنا في هذا المفترق، سأنتظر شعبي،
إلى أن ينهض من الجبال والينابيع
إن استنفاد رؤية أدونيس للغرب أمر غير ممكن، لأنه يمتلك خصوبة كتابية هائلة لا يمكن السيطرة عليها كماً ونوعاً وامتداداً زمنياً، لذلك فالتوقف عن الإبحار في عوالم أدونيس التي عبر عنها بطرائق شعرية ونثرية وخطابية متنوعة ليكتنه حقيقة الغرب أوروبياً وأمريكياً بنظرات ورؤى واستشرافات، لا يمكن وصفها إلا بأنها متفردة على جميع المستويات.
لكن يجب أن نأخذ على محمل الجد تحذير أدونيس لنا من ثقافة تكفيرية شرقية تتحالف مع غرب أمريكي عسكري من أجل الفتك بنا.

التاريخ: الثلاثاء10-3-2020

رقم العدد : 990

آخر الأخبار
العدالة الانتقالية في سوريا: خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار ومنع الانتقام "إدلب" ورمزيتها في فكر الرئيس الشرع.. حاضرة في الذاكرة وفي كل خطاب قرار لدعم صناعة الإسمنت الأسود وتحفيز الاستثمار مبادرة مجتمعية لإنارة شوارع درعا المحامي تمو لـ"الثورة": رفع العقوبات نقطة تحول اقتصادية   عميد كلية الحقوق "لـ"الثورة": العدالة الانتقالية لا يمكن تجاوزها دون محو الآلام ومحاسبة المجرمين روبيو يؤكد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب سوريا.. الشيباني: وضعنا بنية تحتية لبناء علاقات استراتيجية... ربط آبار بعد تأهيلها بالشبكة الرئيسية في حماة القمح المستورد أول المستفيدين.. عثمان لـ"الثورة": تراجع الطن 10دولارات بعد رفع العقوبات الخزانة الأميركية: بدأنا خطوات رفع العقوبات عن سوريا من تصريح إلى أمل.. السوريون وحق الحياة المسروق طلاب المدينة الجامعية بحلب يشكون ضيق الغرف ورئيس الجامعة: ندرس عدة خيارات القرار السياسي تأخير بترحيل القمامة من بعض شوارع دمشق... والمحافظة: نعمل بكامل الإمكانيات المتاحة وزير الأشغال العامة: رفع العقوبات يسهم في استقطاب استثمارات عربية ودولية الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة.. والاحتلال يضاعف مجازره في غزة عضات الكلاب تتزايد في درعا.. والطعوم  غائبة مشاركون في  مؤتمر العدالة الانتقالية لـ"الثورة": حاجة ملحة للسلم الأهلي وتحتاج للوقت والتشاركية "صحافيون من أجل حقوق الإنسان " في مؤسسة الوحدة استجرار الكهرباء غير المشروع تدفع ثمنه " مياه " درعا