انشغل العالم في الآونة الأخيرة بأخبار الفيروس المراوغ، والمستجد، والذي انتشرت أخباره، وذاع صيته، وأصبح حديث كل ساعة وهو يتغلغل بين الناس، ويسافر من بلد إلى آخر غير آبه بما يسببه من إصابات قد تكون قاتلة أحياناً، ويعد بأن يغزو كل بلاد الدنيا مستغلاً الوقت الذي يجهد فيه العلماء والباحثون في العثور على دواء شافٍ يتغلب على كائن يتبدل، ويتغير ضمن ظروفه، ومواصفاته.. والقصص من حوله تذيع، وتشيع بين مَنْ يصدق، ومَنْ يكذب.. والأزمة من جرائه تصبح أزمات، والخسائر التي يتسبب بها تصل إلى حد كبير في كل المجالات فلم تسلم منها حتى السينما، والمؤتمرات، والمهرجانات، وعروض الأزياء، وربما تصبح آثارها كارثية إذا ما طال الأمد.
ويُحبس عدد ليس بقليل من الناس في بيوتهم، ويُحجر عليهم في أماكنهم، ومناطقهم ليصبحوا أسرى، أو بالأصح رهائن لدى كائن مجهري لا تفصح أخباره متى سيتم اغتياله، وهزمه للتخلص من شره، والبشر يجهدون في مختبرات أبحاثهم، ومؤسساتهم الصحية بينما الزائر الجديد يتقلب، ويتحور من شكل إلى آخر حتى لا يقبض عليه أحد من أهل العلم على الأقل في الفترة التي تسمح له بأن يتمدد، ويتنقل عبر جغرافية الأرض.
ونحن الذين شهدنا الثورة التكنولوجية، وافتتنا بمنجزاتها أصبحنا نعيش معها أكثر مما نفعل مع أبناء جنسنا حتى غدونا أشبه ما نكون في جزر متباعدة، وكل منا ينفرد مع جهازه الذكي مكتفياً بمشاهدة العالم من خلاله، ومستمتعاً أيضاً، ومأخوذاً بما يمكن أن يطلع عليه، وأن يعرف عنه.
لكن الحال الآن تبدل مع زيارة (كورونا) مشكوراً فقد أصبح الناس في غرف متقاربة بعد أن مكثوا طويلاً في تلك الجزر المتباعدة فإذا بهم في الأسرة الواحدة إذ هم في الأسر، أو الحجر يتبادلون أحاديثهم وجهاً لوجه بعد أن كانت وسائل التواصل بما توفره من وجوه افتراضية، وأشكال تعبيرية بديلاً من ذلك، وقد تجمعهم غرفة جلوس واحدة في متابعة لما تبثه نشرات الأخبار عن ذلك المرض المعدي، وربما أسعفهم الوقت لتجلس الأسرة بكامل أفرادها حول مائدة الطعام، في ترابط عائلي يعود إلى ما كان عليه في عقود مضت، وإذ بهم يجددون التعارف بعد غياب كاد أن يُنسي واحدهم ملامح وجه شقيقه، أو أمه، وأبيه.. فالانفراد الإلكتروني في مثل هذه الأحوال لا يعود كافياً بما يغني عن الحضور البشري.
أما الكتاب الذي علاه الغبار فوق أرفف منسية فقد عاد بفضل (كورونا) أنيساً، وجليساً يخفف من وطأة عزلة مفروضة ولو كانت أيامها معدودة.. والطلبة الذين أجبروا على البقاء في منازلهم بعد أن أغلقت جامعاتهم، أو مدارسهم أبوابها ليس لهم سوى الكتاب ليعودوا إليه معلماً، ومرجِعاً.. ولينشط بالمقابل التعليم عن بعد مضيفاً تجربة جديدة لمن لم يختبره من قبل.. ولينسج الكتّاب أيضاً قصصهم الموجهة للأطفال حول (كورونا) في تبسيط، وتعريف.
ليس هذا فحسب بل هناك ما هو أكثر.. فها هي دول العالم أجمع تعيش حالة من التعاطف بين بعضها بعضاً، والتعاون في المساعدة والإسعاف، والتنسيق المشترك في جمع المعلومات، وتبادلها مع الخبرات بهدف مواجهة عدو واحد كان له الفضل في خلق هذه الحالة من التآلف، والتآخي بين شعوب الأرض، لعل هذا التآلف يظل سارياً بعد انحسار موجة المرض.. وكيف أن الدول تسعى جاهدة للحفاظ على سلامة مواطنيها في مثل هذه الظروف الاستثنائية.
أما الإشاعات التي يتناقلها الناس عبر وسائل التواصل دون التقصي عن مدى مصداقيتها فقد كشفت نفسها أمام (كورونا) لتصبح أكثر خطورة من الإصابة نفسها.. وبفضل (كورونا) أيضاً عرفنا كم الأخبار الكاذبة التي تسري بيننا بهدف إثارة المخاوف، والقلق الذي قد يصل إلى حد الفزع.
لكن.. لماذا نظل نتهم التكنولوجيا بأنها كانت سبباً في إخافتنا، كما كانت سبباً في تفكيك روابطنا الاجتماعية، وابتعاد أحدنا عن الآخر في الواقع الحقيقي وأنها تعزلنا في واقع وهمي.. بينما هي الآن عزاء، وشفاء، ووسيلة فائقة من وسائل الترفيه التي تجعل واقعاً جديداً أقل كثافة، ومللاً لمن هم في عزل مفروض لا يسمح للمصاب بالفيروس الممرِض، أو للمشتبه بإصابته بأن يخالط غيره.. ألن تكون تلك العزلة قاتلة مهما قلّت أيامها ما دام التواصل مع الناس محظوراً، وممنوعاً؟
فيا أيها الفيروس الطارئ، والمربك أنت مؤذٍ بما يكفي لما تتسبب به من خسائر في الأرواح، والأموال إلا أنك جمعتنا في مركب واحد نبحر به نحو الخلاص لأننا نحن البشر لا نعدم وسائل التأقلم في حياتنا مع أي واقع مستجد لنهزمه قبل أن يهزمنا.. ولنجد بدائل الأشياء بينما الفكر ينير لنا دروبنا، والعلم الذي قطعنا فيه أشواطاً كبيرة يسعفنا بحلوله الذكية.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 13-3-2020
الرقم: 17216